في الواقع لا يمكن فصل العمارة، خلافًا للفنون الأخرى، عن الحرفة، ويمكن القول إن البناء عمل حرفي في الأساس قبل أن يكون عملًا إبداعيًا، وهذا ما يجعل نقاد التعليم المعماري يوجهون أصابعهم إلى التعليم المعماري المعاصر الذي يفتقر إلى روح الحرفة، فتعليم العمارة أصبح على الورق منذ فترة طويلة، والآن أصبح عبر لوحة مفاتيح الحاسب.. التقيت بمجموعة من طلاب العمارة في مؤتمر "في مديح الفنان الحرفي" قبل عشرة أيام تقريبا، وكان سؤالهم المباشر هو: لماذا يجب على المعماري أن يشارك في مثل هذه المؤتمرات؟ فهل الحرفة تعتبر مسألة مهمة في العمارة؟ كان الحوار ممتعا، لأن هناك إشكالية معلّقة بين "الفن" و"الحرفة"، فهناك من يرى أن الحرفة "أداة" يستخدمها الفنان لأجل صناعة الفن، لكن هناك من يحاول أن يقول إن الأعمال الحرفية المتقنة هي "فن خالص". هذا الجدل يمتد إلى طبيعة "الفن" المتجدد دائما الذي لا يقبل التكرار وطبيعة "الحرفة" التي تعتمد على الاتقان في التنفيذ المتكرر، أي أن جوهر العمل الحرفي الالتزام بالتقاليد الحرفية المتوارثة وعدم الخروج عنها، وهذا يجعل من الحرفي ناسخا ماهرا لكن يفتقر للخيال. نقاد الفنون يضعون الأعمال الحرفية في درجة أقل بكثير من الأعمال الفنية ويضعون الحرفي في مرتبة "المساعد" للفنان إذا تقاطع عملهما. العمارة تصنف ضمن الفن، وهي فن واسع متعدد الأقطاب ويتطلب مشاركة العديد من الحرفين لكن يجب أن يكون هناك عقل مبدع يجمع كل هؤلاء الحرفين في قالب واحد مبتكر، يمكن أن أذكر أحد الأمثلة المشهورة وهو حسن فتحي الذي اشتهر بعمارة الطين فقد اعتمد على حرفين من النوبة لتنفيذ أعماله، ودونهم قد يكون من الصعوبة بمكان تحقيق نفس الأهداف، لكن السؤال لماذا لم يستطع هؤلاء الحرفيون تحقيق ذلك بأنفسهم؟ قبل عشرة أعوام تقريبا كان مركز التراث العمراني في هيئة السياحة والتراث الوطني يعمل مع برنامج الحرف والصناعات اليدوية (بارع) على تحديد الحرف التقليدية المتعلقة بالبناء، وتوصّلنا إلى وجود أكثر من 30 حرفة تتقاطع مع التراث العمراني من الناحية التقنية والوظيفية، كما أن باقي الحرف يمكن اعتبارها ضمن البرامج المشغّلة (الوظيفية) للمبنى. كان الهدف هو فهم العقل المفكّر للبنّاء التقليدي، وكيف كان يؤلف بين مجموعة الحرفيين لخلق المبنى، اكتشفنا أن هناك علاقة كبيرة بين تكرار العمل الحرفي وبين التكرار الذي يميز العمارة التقليدية، فالبنّاء ملتزم بما يستطيع أن يعمله الحرفيون ولا يمكنه الخروج عن أنساقهم الحرفية المتوارثة، لذلك كان يستخدم نفس الحلول التقنية والبصرية التي كان ينتجها الحرفيون، لكن كذلك وجدنا أن البنّاء التقليدي كان يخلق تكوينا مختلفا كل مرة رغم أنه يستخدم نفس الأدوات ويتحدث نفس اللغة. فكرة حصر الحرف المرتبطة بالعمارة التقليدية في المملكة كانت تهدف إلى خلق "أرشيف" يكون مرجعا للإلهام المستقبلي وفي نفس الوقت من أجل فهم "أصول الأشكال" وسيرتها التطورية. يمكن أن نقول إن العمارة تتكون من مجموعة من الحرف، ربما خلافا لكثير من الفنون الأخرى مثل الرسم والنحت التي قد تحتاج للحرفة لكنها لا تعتمد عليها اعتمادا كليا، في العمارة لا يستطيع المعماري لوحده بناء مبنى، إلا إذا كان هذا المبنى بدائيا، والواقع العملي يقول إن المعماري كان على الدوام مثل قائد "الأوركسترا" يوجه العديد من الموسيقيين بآلاتهم المختلفة لكنه لا يعزف، هو يؤلف الموسيقى ويخلق التوازنات المطلوبة بين الآلات المختلفة، هو المفكر الذي لديه التصور الكلي للشكل النهائي الذي سوف تكون عليه المعزوفة، في اعتقادي أن المعماري يقوم بنفس الدور، فنادرا ما يبني المعماري بيده وإن شارك في البناء فهو يقوم بدورين، الأول دور صانع الفكر للعمل ككل، والدور الثاني هو عمله كأحد الحرفيين ضمن "جوقة" الحرفيين. لاحظت هذا الأمر في العمارة التاريخية، عندما كان المعماري يعمل مع الحرفيين وله دور حرفي واضح، فكل البنائين التقليديين كانوا هم "المؤلفين" للمبنى لكنهم كانوا يعملون ضمن مجموعة حرفية متعددة التخصصات هم قادتها، في الواقع أن المعماري صار مع الوقت يخرج من "الجوقة" الحرفية ويعطي نفسه دورا ابداعيا وفكريا وإداريا لإنجاز العمل الفني المعماري ولم يعد يشارك في عملية البناء لكنه هو الذي يصنعه فكريا. ربما يتركز عمل الفنان في قدرته على الابتكار وتوظيف التقنيات الجديدة في خلق العمل الفني، وهذا يظهر بوضوح في مجال العمارة التي تعتمد بشكل أساسي على التصنيع، الذي يعد ضربا من ضروب الحرفة، وليس بالضرورة أن يكون المعماري قادرا على البناء لكن يجب أن يكون قادرا على "التوليف" بين الحرف المختلفة وأن تكون الصورة الأخيرة مختمرة في ذهنه. الناقد المعروف "كريستوفر ألكساندر" كان ينتقد المعماريين المعاصرين بأنهم لا يعرفون كيف يبنون جدارا فضلا عن مبنى، وكان يردد أنه معماري لكنه لم يقم ببناء مبنى بيديه، لذلك توجه إلى تطوير نظرية للبناء التشاركي اعتمادا على "لغة الانساق" التي اعتبرها مرشدا لخلق التكوين المعماري. ومع ذلك فهو لم يستطع أن يستغني عن عمل الحرفيين في كثير من المجالات التي يتطلبها أي مبنى (الخشب والسيراميك والحديد والزجاج وغيرها). في الواقع لا يمكن فصل العمارة، خلافا للفنون الأخرى، عن الحرفة، ويمكن القول إن البناء عمل حرفي في الأساس قبل أن يكون عملا ابداعيا، وهذا ما يجعل نقاد التعليم المعماري يوجهون أصابعهم إلى التعليم المعماري المعاصر الذي يفتقر إلى روح الحرفة، فتعليم العمارة أصبح على الورق منذ فترة طويلة والآن أصبح عبر "لوحة مفاتيح الحاسب"، أي أن الرسم والتخيل الذي كان يتمتع به المعماري صار يتقلص بشكل كبير، فليس لديه قدرة على البناء ولا حتى الرسم والتخيل.