تكتنف مهنة العمارة صعوبات عدة، لعل أهمها التقليد الذي جبل عليه المشتغلون في هذه المهنة.. فمنذ فجر التاريخ نشأت الطرز المعمارية على التقليد والتكرار التي يقوم عليها الشكل المعماري .. إذ أنه حالما يظهر الطراز إلى الوجود يصبح هو الأسلوب المألوف للبناء .. على أنه في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين،عندما ظهرت العمارة الحديثة أول ما قامت به هو إلغاء فكرة الطراز وتحولت بذلك العمارة من عمارة شكلانية إلى ثورة في الإبداع وليصبح كل رائد من رواد العمارة الحديثة مدرسة فكرية وبصرية مستقلة.. ولكن ما حدث بعد ذلك هو عودة التقليد من جديد عندما قام العديد من تلامذة الرواد ومريديهم بتقليد أعمالهم، ظناً منهم أن العمارة الحديثة هي عمارة شكلانية كمثيلاتها من الطرز المعمارية السابقة، ولم يعوا أن تلك العمارة اعتمدت على ثورة التقنية وحاولت أن تحرر نفسها من فخ التقليد الذي لا ينجب مبدعين إلا ما ندر. ربما يفسر هذا عدم ذكر أسماء العديد من المعماريين القدماء الذين كانوا رغم إتقانهم الشديد في لصنعتهم إلا أنهم لم يكونوا سوى مقلدين .. ومع ذلك فقد حفظ لنا التاريخ أسماء بعض المبدعين الذين ساهموا في صناعة طرز خاصة بهم أصبحت بعد ذلك مدارس معمارية قائمة بذاتها. على ذلك نستطيع أن نرى التقليد كسلوك متجذر تاريخياً في المعماريين .. فالمختصون في هذا المجال يرون الخبرة المعمارية من منظور تراكمي .. والتقليد له دور كبير في بناء التراكم.. هذا ما جعل كثيرا من مناهج العمارة تنحى لبناء الخبرة التراكمية لدى الطلاب من خلال تطوير برامج تعليمية تعتمد على التقليد والتكرار والاعتماد على الأعمال القديمة.. ربما يكون هذا في حد ذاته لا يشكل عائقاً إبداعياً لو توافر الفهم الكامل الذي يمكننا من الفصل بين بناء الخبرة التراكمية عن طريق الإطلاع على أعمال الغير وإعادة إنتاج هذه الخبرة كفعل إبداعي مختلف عن السابق.. فكما هو معروف أن اختزان المعرفة مهم جداً لإعادة إنتاج المعرفة بشكل متجدد. ربما نسأل أنفسنا: لماذا يقع الكثير منا في الوقت الحاضر في فخ التقليد ، رغم المحاولات الجادة لرواد العمارة الحديثة للتخلص من قرون طويلة من الرتابة والتكرار؟! الذي نراه، وكما ذكرنا ذلك سابقاً، هو أن مناهج التعليم المعماري لها دور كبير في ذلك فالعمارة الحديثة التي لم تصمد طويلاً لأنها خالفت سلوك التقليد المتجذر تاريخياً في هذه المهنة والذي كان يشكل المعماريين ويرسم منهجهم المهني، و خلفتها عمارة ما بعد الحداثة في السبعينيات من القرن العشرين التي أحيت ذلك السلوك، لتعود العمارة من جديد لتيارها البصري التاريخي النمطي والفضل في ذلك للتعليم المعماري الذي لا يعلم الطلاب الإبداع والاستقلالية بقدر ما يعلمهم التقليد والتبعية. وإذا كان رأينا هذا لا ينطبق على كثير من الحالات في العالم الغربي، الذي تتنازعهم مدارس إبداعية متعددة وتتشكل أذهانهم منذ التعليم المبكر عبر مناهج تحتل فيها التجربة والابتكار مكاناً كبيراً، إلا أنه ينطبق بشكل شبه كامل على حالتنا العربية المصابة بما يشبه العقم الإبداعي.. فنحن لا نرى مبدعين في العمارة من العرب والسبب الرئيسي هو التعليم، وحتى لا نظلم مناهج التعليم المعماري بأن نلقي كل اللائمة عليها لابد أن نشرك التعليم العام الذي لا يصنع سوى عقول تكرر ما تقرأ وترى دون أن تبحث في العلة والسبب.. لعلها مفارقة حقاً أن نرى العمارة التي كانت تدعى (أم الفنون) في يوم من الأيام (ربما ذلك قبل انتشار الطباعة والصور) تتقوقع مناهجها التعليمية على التقليد والتكرار لتكرس الخطأ الفادح الذي يرتكبه التعليم العام في حق أجيالنا المستقبلية.. ربما نستطيع أن نتحدث عن تجربتنا الشخصية في التعليم المعماري في المملكة حيث لا نجد أصلاً من يقبل على العمارة كتخصص ذي قيمة ثقافية بصرية، لأنه وبكل بساطة لم تتحول العمارة كثقافة مقروءة ولا يوجد في مناهجنا العامة ما يقدم هذا التخصص كقيمة ثقافية بالإضافة للافتقار الشديد للمهارة في الرسم والتذوق.. ومع أنني من أنصار فكرة أن " الرغبة تولد المهارة" إلا أن الرغبة نفسها لا تتوافر لدى طلابنا. هذه القضية بالذات تشكل هاجس المهتمين بالتعليم المعماري في بلادنا لأننا إن كنا نشارك الآخرين في حضور سلوك التقليد في مناهج التعليم المعماري إلا أننا ننفرد عنهم في عدم وجود طلاب اعدوا بشكل جيد في التعليم العام ويفتقرون إلى وجود الرغبة في شئ اسمه عمارة. ومع ذلك فهذه ليست أعذارا أقدمها نيابة عن المشتغلين بالتعليم المعماري، وأنا واحد منهم، لأنه يفترض أن تتطور مناهج العمارة لكي تجبر الطالب على الدخول في تجربة ذهنية وعملية تعيد تشكيله من جديد خلال الأعوام الخمسة ( أو أكثر على الأغلب) وتحيي بواعث الإبداع لديه، فهل هذا يحدث لدينا؟ الذي نراه أن "فخ التقليد" المترسب في المعماريين، الذي قضى في يوم على العمارة الحديثة(رغم الإمكانات والإبداعات الهائلة لدى الغرب) هو ما يجعل أساتذة العمارة لدينا نمطيين وتقليديين، وبدلاً من أن يفجروا مكامن الإبداع لدى طلابهم، كرسوا لديهم التقليدية والاستنساخ، ففاقد الشئ لايعطيه، ومالم تحدث مراجعة شاملة للتعليم المعماري لدينا سنظل نخرج للسوق موظفين للأمانات والبلديات والشركات وغيرها من جهات تبحث عن موظفين للإدارات الهندسية، ولن نستطيع في يوم أن نخرج معماريين مبدعين قادرين على تقديم العمارة كمنتج ثقافي فكرى له ارتباطات بالسياق التاريخي الذي نتج خلاله.. لعله من المفيد حقاً أن نتحدث عن بعض الحلول الممكنة لتطوير التعليم المعماري لدينا، إن كان هذا ممكناً. في البداية لابد أن نوضح أن الإبداع لايعني أبداً الاتيان بالجديد دائماً.. يذكر أحد منظري العمارة ، أنه لايمكن اختراع العجلة باستمرار ، ففكرة الإبداع المعماري تأتي من الإلمام بالتجارب القديمة في العمارة وإعادة انتاجها بإحساس جديد .. إذن القضية تكمن في التعليم نفسه وكيف تصل المعلومة والمعرفة والتجربة للطالب ليقوم هو بإعادة إنتاجها بأسلوب وشكل جديد.. فهل نستطيع تحقيق ذلك؟ أعتقد أن هذا السؤال كبير جداً لأنه يتضمن ثورة على المناهج الحالية، وثورة على أساتذة العمارة الحاليين، وربما ثورة على أسلوب التفكير في العمارة، كما يحتاج إلى ترتيب البيت المهني من الداخل والإبتعاد عن الميوعة المهنية والضبابية التنظيمية التي لم تضع التعليم المعماري في بلادنا أمام تحديات حقيقية.. فمسألة أن المناهج التعليمية الحكومية لايمكن أن يشكك في مخرجاتها لمجرد أنها تتبع التعليم الحكومي ( وهذا رأي بعض المسؤولين في الجامعات السعودية) لم تعد مقبولة على الإطلاق.. لأنها في النهاية لا تخدم التعليم المعماري ولا تخدم مصلحة الوطن بشكل عام. اعتمدت العمارة الحديثة على ثورة التقنية وحاولت أن تحرر نفسها من فخ التقليد الذي لاينجب مبدعين إلا ما ندر كثير من مناهج العمارة تنحى لبناء الخبرة التراكمية لدى الطلاب من خلال تطوير برامج تعليمية تعتمد على التقليد والتكرار والاعتماد على الأعمال القديمة. الدكتور مشا ري بن عبد الله النعيم