المستشرق والدبلوماسي الهولندي مارسيل أو (مرسال الشمري) كما يحب أن يلقب ربما يكون أحد آخر الرحالة الذين وثقوا رحلاتهم وبلغة أدبية راقية وجاء كتابه (البدوي الأخير) من أهم كتب الرحلات وأكثرها جدلا يذكر مرسال أنه تشوق لزيارة رفحاء أثناء قدومه لحائل، فانطلق من هناك عبر النفود الكبير مرورا بعرعر، وقصد منزل أحد أصدقائه وهو ممدوح والده الشيخ المعروف محمد الخزعلي الذي تعرف عليه في الرياض عن طريق أحد الشعراء، وكان ممدوح أحد ضباط الحرس الوطني وقد أراد الاستعانة به للتعرف على شعراء شمر، ويذكر هنا مارسيل أنه بعد الاستقبال الحافل في رفحاء وتقديم مراسم الضيافة طلب منه ممدوح في اليوم التالي الاطلاع على رسالة التوصية المعطاة له من إمارة حائل قائلا: لقد آن الأوان للذهاب لمقابلة رئيس البلدية، يوم أمس كان في المجلس رجل من الجوف رآك ومن الأفضل ألا يخبر رئيس البلدية بوصولك. ويمضي بعد ذلك في توثيق مشاهداته: في الحديقة الخلفية لمنزل شقيق ممدوح (ربما قصد شقيقه بندر الذي أشار إلى أنه كان مديرا للمرور في رفحاء) في الحديقة انتصبت خيمة سوداء ضخمة كاملة التجهيزات بكل لوازم الطبخ وطقوس تحضير القهوة، بيت رئيس البلدية بدا مختلفا تماما وكان العمدة وهو من الحاضرة قد جهز بيته بمرافق بورجوازية غربية مثل الخِزانات والمقاعد الوثيرة والأرائك، القاضي بلحيته المدببة والمصبوغة بالحناء استمع بانتباه إلى شرح الضيف الهولندي وكان اقتراحه أن يبدأ بضم أعماله إلى انطولوجيته (علم الوجود) عن شعراء رفحاء والمنطقة المحيطة. واستدعى القاضي أحد أبنائه لتسجيل أبياته من فمه لصالح الضيف الهولندي ولكن ما فهمه الفتى الصغير كما قال من لهجة والده كان حتى اقل من فهم الهولندي نفسه، وبعد نصف ساعة من أسماعه قصيدة في مدح الملك فيصل أصبح المجهود فوق طاقة أبو المدينة. راديوهات (FM) في رفحاء تلتقط إشارات الطيران العالمي في أشهر الصيف القائظة تستمر الحياة مع الخزاعل كما هي حياتهم. كان الضيف ينام في الخيمة المنصوبة السوداء في الحديقة بين أشجار التين والزيتون وأحراش النعناع العطرة. وفي الصباح كانت أيادٍ غير مرئية تدفع له الفطور من باب خلفي وكان باقي اليوم يقضى في المجلس والناس يمضون اليوم كله متكئين على المساند بنصف عين على جهاز التلفزيون ولم يكن يقطع ذلك إلا نداء الصلاة التي كانت تؤدى في مواعيدها في مسجد العائلة. أما الوقت الممتد بين الغداء وصلاة الظهر والساعات الأخيرة من العصر يقضى في النوم. في المساء كان الناس يعودون الى الجلوس على البسط المفروشة في الحديقة متكئين على المساند المستطيلة.. إرتك يا مارسيل.. لماذا لا تريح كوعيك على الوسائد يا مارسيل؟. كل ذلك التمدد والكلام يرهقه أحيانا.. كان يريد جمع القصائد البدوية ووجود من يساعده على شرحها. لكن قوة تركيز رواة المجلس لا تصمد أكثر من عشرة أبيات لأنهم تعبوا أو أن الحديث كان يستأثر باهتمامهم مع السيل الذي لا ينتهي من الزوار. كانت القهوة الخضراء والشاي السكري يتدفقان دون توقف. ولم يكن هناك من سبيل إلى العمل بجدية وهنا يعلق الضيف الهولندي: إن حياة الأرستوقراطية البدوية تتألف بالدرجة الرئيسة من الجلوس واستقبال الزوار أيا كانوا بهدوء ووقار. ويمضي مارسيل إلى أنه في بعض الأمسيات كان ينظم إليهم خبير مائي فرنسي عاش في رفحاء خمس سنوات وكان ضجرا. كان معه دائما راديو روسي اشتراه من الكويت وكان يسمعهم منه الأحاديث التي تجري بين الطائرات المحلقة على ارتفاع 10 كم فوقهم وبين أبراج المراقبة في بغداد ودمشق والكويت ودول أخرى. وكانت الحركة الجوية كلها بين الشرق والغرب تمر عبر هذا الرواق بين أوروبا وجنوب شرق آسيا. الذي يتبع مسار أنبوب التاب مثله مثل الطريق المعبد الوحيد في المنطقة. حتى قال: كنا نرى الطائرات من بسطنا المفروشة في الحديقة تخترق السماء فوقنا، صامتة بسبب ارتفاعها الشاهق. ولكن في ليل الصحراء الجاف الرائق، كانت تبدو واضحة وضوحا أثيريا بحيث يكاد المرء يلمسها. وكانت ترسل مثل اليراعات، إشارات بأضوائها الحمراء والبيضاء في الجناح والذيل لا ترى إلا من وميضها بإيقاع منتظم وليس من قوتها في سماء الليل المرصعة بالنجوم حولها. وعلى راديو «أف إم» كنا نسمع الموقع – نمر الآن برفحاء.. والارتفاع والأحوال الجوية في مطارات تبعد آلاف الكيلو مترات. ويختم يوميته متسائلا: كيف يستطيع المرء أن يكون أبعد عن العالم منه في رفحاء، لكن مع ذلك يبعد عشرة كيلومترات فقط تحت أكثر شرايين حركة الطيران ازدحاما بين أكبر قارتين سكانا. ربيع رفحاء مارسيل كوربرشوك من كثافة الطائرات في سماء المملكة