التكنولوجيا العميقة مصطلح حديث العهد نسبياً، حيث ظهر كفكرة قبل زهاء عقد من الزمان، لكنه ازداد انتشاراً وتوسعاً، حتى أصبح حالياً عنصراً جوهرياً في الابتكار التكنولوجي والمشاريع التي تهدف إلى إحداث تأثير جذري في جوانب مختلفة من حياتنا. ومع أن هذه التكنولوجيا تتطلب وقتاً طويلاً للوصول إلى مرحلة الاستحقاق الجاهز للسوق، فضلاً عن حاجتها إلى متطلبات كبيرة لرأس المال، إلا أن أهم ما تتسم به قدرتها على التأثير في تحقيق النتائج المطلوبة عند توظيفها في القطاعات المختلفة. وبما أننا على موعد مع انطلاق مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر "كوب 16" في العاصمة السعودية الرياض، خلال الفترة من 2 إلى 13 ديسمبر المقبل، ستتجه أنظار الباحثين والعلماء إلى يوم العلوم والتكنولوجيا والابتكار، ضمن أيام المحاور الخاصة في هذا الحدث. وسيتابع المهتمون بالتحديات الناجمة عن التصحر والجفاف وتدهور الأراضي ما ستكشف عنه المؤسسات العلمية من ابتكارات للتصدي لهذه الظواهر البيئية التي تؤرّق العالم أجمع. وهنا يبرز دور التكنولوجيا العميقة التي يمكن للبشرية اتخاذها أداة استراتيجية لتحويل التحديات البيئية إلى فرص للنمو المستدام. ومن خلال الاستثمار في الابتكار العلمي والتكنولوجي، يمكن للمجتمعات التصدي للتصحر والجفاف وتدهور الأراضي، ما يمهّد الطريق نحو مستقبل أكثر استدامة. وعلى العكس تماماً من التقنيات التقليدية التي تركز غالباً على تحسين المنتجات أو الخدمات الحالية، تهدف التكنولوجيا العميقة إلى تقديم حلول جديدة وفريدة لمشكلات معقدة وطويلة الأمد، حيث تعتمد على التطورات العلمية والهندسية العميقة الهادفة إلى إحداث تغيير جذري في الصناعات والمجتمعات، وهي من أهم السمات التي تميّزها، مثل تحسين جودة الحياة أو معالجة قضايا بيئية كبيرة. ويمكن الاعتماد عليها لتطوير حلول فعالة للتحديات الحالية، وفي مقدمتها المشاكل البيئية وإدارة الموارد الطبيعية عن طريق تطوير نماذج قادرة على التعلم والتكيف مع البيانات لحل مشكلات معقدة. ودخلت هذه التكنولوجيا مجال الهندسة الوراثية، حيث يستفاد منها في تعديل الجينات لعلاج الأمراض، وتحسين المحاصيل الزراعية للتوصل إلى سلالات قادرة على التكيف مع التحديات البيئية، بما في ذلك التصحر والجفاف. ويمكن الاستعانة بالتكنولوجيا العميقة لتعزيز الاستدامة من خلال تطوير تقنيات لتقليل استهلاك الموارد وحماية البيئة. وتعتبر الإدارة الفعالة للموارد الطبيعية من المجالات الأخرى التي أصبحت تعتمد على التكنولوجيا العميقة، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، لجمع وتحليل البيانات البيئية في الوقت الفعلي من خلال مراقبة وإدارة الموارد الطبيعية. وتستخدم هذه العمليات الطائرات المسيّرة المجهزة بأجهزة استشعار متقدمة لرصد التغيرات في التربة والغطاء النباتي، وتحليل مستويات الرطوبة في الأراضي الزراعية. ولتحسين الزراعة المستدامة، تستعين دول كثيرة بتقنيات الزراعة الدقيقة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتقنيات النانو لتحسين الإنتاج الزراعي مع تقليل استهلاك المياه والأسمدة الكيميائية. وتقدم المملكة العربية السعودية نموذجاً ملهماً في ذلك، حيث تضع وزارة البيئة والمياه والزراعة على قمة أولوياتها تمكين شركائها في منظومة البحث والتطوير لتحفيز الابتكار وتوطين التقنيات. أما الهدف من ذلك فهو تقديم الحلول الفعالة في قطاعات الوزارة باستخدام تقنيات المياه والتقنيات الحيوية وتقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. وفي الإمارات تستخدم تقنيات النانو لتحويل الرمال الصحراوية إلى تربة صالحة لزراعة المحاصيل في بيئات قاحلة، مع تقليل الحاجة إلى الموارد المائية بنسبة تصل إلى 50 %. وهناك ابتكارات تساعد على إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة، مثل تقنيات الهندسة الوراثية والبيولوجية لتطوير نباتات تتحمل الجفاف، وتعمل على استعادة خصوبة التربة. وقد استخدمت الصين تقنيات متقدمة لزراعة نباتات مقاومة للتصحر في المناطق القاحلة في إطار مبادرتها "السور الأخضر العظيم"، وساعدها ذلك على تحسين جودة التربة واستعادة التنوع البيولوجي. وتتعدد استخدامات هذه التكنولوجيا لتغطي مجالات التصدي للجفاف وإدارة المياه، ورصد وتخفيف تأثيرات تغير المناخ، وإعادة تدوير الموارد وتحسين كفاءة الطاقة باستخدام تقنيات النانو لتطوير مواد قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وإعادة استخدامه في صناعة الأسمدة أو الوقود. واستخدمت إحدى تقنيات الاستشعار عن بعد في حوض الأمازون لرصد إزالة الغابات، واستعادة المناطق المتدهورة من خلال زراعة أنواع نباتية محلية مقاومة للظروف البيئية القاسية. ويأمل الباحثون أن تؤدي هذه التقنيات إلى استعادة الأراضي المتدهورة وزيادة إنتاجيتها، وتحسين كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، وتقليل الأثر البيئي للأنشطة البشرية، وتعزيز التنوع البيولوجي، والأهم من ذلك تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة. يبرز دور التكنولوجيا العميقة التي يمكن للبشرية التعامل معها