يبدو جلياً أن التحديات البيئية تزداد فداحة على مستوى العالم، وتأتي قضية استعادة خصوبة الأراضي كواحد من التحديات الضاغطة التي لا يقتصر تأثيرها على البيئة، بل يمتدّ ليشمل حياة الشعوب واستقرارها. ومع تدهور مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، تفقد التربة قدرتها على دعم التنوع البيولوجي وتدهور الإنتاج الزراعي، لتشكل تهديداً للأمن الغذائي، مع فرض المزيد من الضغط على المجتمعات المحلية. وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة كبيرة من الأراضي حول العالم أصبحت غير صالحة للزراعة بسبب عوامل مثل إزالة الغابات، مما يضعف قدرتها على امتصاص الكربون، ويؤثر على التنوع البيولوجي وصحة التربة. في هذا السياق، يُعقد مؤتمر "كوب 16" بالرياض ليقدّم منصة حيوية لإطلاق مبادرات تهدف إلى استعادة الأراضي، مدفوعةً بأمثلة رائدة مثل "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر"، وكذلك مبادرات عالمية مثل "السور الأخضر العظيم" و"تسونامي العشرة مليارات شجرة". يؤدي تدهور الأراضي إلى تأثيرات اجتماعية واقتصادية عميقة تطال المجتمعات والاقتصادات بشكل ملحوظ. فمع تزايد الأراضي غير الصالحة للزراعة، يجد سكان المناطق الريفية أنفسهم أمام واقع قاسٍ يجبرهم على الهجرة إلى المدن أو دول أخرى بحثاً عن فرص حياة أفضل، ما يسبب ضغطاً متزايداً على البنى التحتية الحضرية. وتشير تقارير الأممالمتحدة إلى أن تدهور الأراضي يؤثر على معيشة 3.2 مليارات شخص حول العالم، ويؤدي إلى خسائر تتراوح بين 10-17 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتأثرة. ونظراً لانخفاض الإنتاج الزراعي وتراجع مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد، تصبح برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية أكثر صعوبة عند تنفيذها، الأمر الذي يؤدي إلى الحد من القدرة على الاستثمار في المناطق الريفية، وبالتالي تزايد الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية. ويأتي انعقاد "كوب 16" في الرياض بارقة أمل لمواجهة هذا الواقع الصعب، إذ يهدف هذا الحدث العالمي المهم إلى جمع الحكومات والمؤسسات من جميع أنحاء العالم لمناقشة التحديات البيئية الحرجة، وعلى رأسها تدهور الأراضي والتصحر. ويوفر المؤتمر منصة حيوية لتحفيز التعاون الدولي وتبادل الأفكار حول استعادة خصوبة الأراضي وزيادة الغطاء الأخضر، بما يعكس الوعي العالمي المتزايد بضرورة مواجهة هذه القضايا التي تهدد الأمن الغذائي والاستقرار البيئي والاجتماعي. ويحمل المؤتمر دعوة لتعزيز التعاون والعمل المشترك بين الدول لوضع حلول مستدامة لتدهور الأراضي، مما يمهد الطريق لبناء مستقبل بيئي أكثر استدامة. والعالم أمام واقع لا يبعث على التفاؤل، واستجابة لذلك تداعت دول كثيرة لتأخذ على عاتقها مواجهته. وعلى مستوى المملكة، أطلقت المبادرات الوطنية التي تستهدف استعادة الأراضي، ومن أبرزها مبادرة السعودية الخضراء التي تهدف إلى زراعة 10 مليارات شجرة داخل المملكة، في إطار سعيها لتحقيق الاستدامة البيئية وتعزيز التنوع البيولوجي. وتسعى هذه المبادرة التي أُطلقت في إطار رؤية 2030، إلى مواجهة تحديات التصحر وتقليل انبعاثات الكربون من خلال مشاريع التشجير واستعادة الأراضي المتدهورة، ما سيسهم بشكل كبير في تحسين جودة التربة وزيادة معدلات الأكسجين في أجواء المنطقة. كذلك، تدعم هذه المبادرة الوعي البيئي، وتعزز من قدرات السعودية على التصدي للتغير المناخي وتحديات تدهور الأراضي محلياً. أما إقليمياً، تعمل مبادرة الشرق الأوسط الأخضر على توسعة نطاق الجهود البيئية لتشمل المنطقة ككل، بهدف تحقيق نتائج أوسع من خلال التعاون الإقليمي. أما على الصعيد العالمي، فيمكن الإشارة إلى مبادرة السور الأخضر العظيم التي تهدف إلى إنشاء حاجز نباتي يمتد عبر منطقة الساحل والصحراء الأفريقية لمكافحة التصحر، للمساعدة في استعادة خصوبة الأراضي المتدهورة، وتوفير مصادر معيشة للمجتمعات المحلية. وهناك أيضاً مبادرة "تسونامي العشرة مليارات شجرة" في باكستان التي تسعى إلى إعادة تأهيل الأراضي من خلال زراعة عدد هائل من الأشجار، لتشكل نموذجاً آخر للتصدي للتدهور البيئي، ناهيك عن مبادرات كثيرة حول العالم. هدية للشعوب استعادة خصوبة الأراضي تُسهم بشكل مباشر في تحسين حياة السكان في المناطق الريفية لتقديم أثمن هدية لسكانها، حيث تتيح لهم بيئة أكثر استدامة وصحة، وتعزيز فرصهم في الاستقرار والمعيشة المستدامة. ويعتبر دعم القطاع الزراعي أحد أهم القطاعات التي تجني ثمار استعادة الأراضي، إذ يؤدي تحسين جودة التربة إلى زيادة الإنتاجية الزراعية، ويعود ذلك بالنفع المباشر على المزارعين والمجتمعات الريفية. وأظهرت دراسات مختلفة أن تحسين التربة ورفع الإنتاجية يمثلان عاملين جوهريين لتعزيز الأمن الغذائي على المستوى المحلي، ويساعدان في تقليل مستويات الفقر في هذه المناطق. إضافة إلى ذلك، تتيح برامج استعادة خصوبة الأراضي وإعادة تأهيلها فرص عمل جديدة للسكان المحليين، وذلك عبر مشاريع الزراعة وإعادة التشجير وبرامج الرعاية البيئية. هذا النوع من الأنشطة يندرج ضمن الحلول الرامية لتحسين الأوضاع الاقتصادية للمجتمعات الريفية، وتوفير فرص لأبناء تلك المناطق للمشاركة في بناء بيئتهم المحلية، وتعزيز قدرتهم على مواجهة التحديات الاقتصادية. علاوة على ذلك، فإن توفير فرص العمل داخل هذه المجتمعات يساعد على تقليل الهجرة من الريف إلى المدن ويشجع السكان على الاستثمار والبقاء في مناطقهم. فوائد اقتصادية مما لا شك فيه أن تعزيز الاقتصادات المحلية في المناطق الريفية من خلال مشاريع إعادة التأهيل ينعكس إيجابياً على النمو الاقتصادي الوطني، حيث تزداد مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي. بالتالي، تصبح استعادة خصوبة الأراضي خطوة ضرورية لتعزيز التنمية الريفية وتحقيق استدامة بيئية واقتصادية في الوقت ذاته. وتعدّ استعادة خصوبة الأراضي المتدهورة خطوة محورية لتعزيز الفوائد الاقتصادية، حيث تعمل بشكل مباشر على تحسين الأمن الغذائي عبر زيادة الإنتاج الزراعي وتعزيز استدامة الموارد الطبيعية. ومن خلال تحسين خصوبة التربة وإعادة الغطاء النباتي، يمكن للمجتمعات تحقيق إنتاجية أعلى وأقل عرضة لتقلبات المناخ، ما يعزز من استقرار أسعار المواد الغذائية، ويقلل من الاعتماد على الواردات. وتتيح استعادة الأراضي فرصاً اقتصادية جديدة، بدءاً من توفير فرص العمل في برامج إعادة التأهيل البيئي، وصولاً إلى دعم الصناعات الزراعية والصناعات المرتبطة بها. إلى جانب ذلك، تزيد الأراضي المستعادة من قدرة المجتمعات على مواجهة آثار تغير المناخ، حيث تعمل كحواجز طبيعية ضد الجفاف والتصحر، وتدعم القدرة على التكيف مع التحديات المناخية المتزايدة. استثمار استراتيجي وتشكل استعادة خصوبة الأراضي خطوة حيوية نحو بناء مستقبل مستدام، حيث تتجاوز أهميتها الجوانب البيئية لتصبح استراتيجية رئيسية تسهم في رفاهية المجتمعات وتحسين ظروف معيشتهم. فإعادة إحياء التربة لا تساعد فقط في زيادة الإنتاج الزراعي، بل تخلق بيئة صحية ومستدامة للأجيال القادمة، وتعزز استقرار المجتمعات الريفية، وتخفف من وطأة التغيرات المناخية. ووفقاً للدراسات المتعلقة بالاتفاقية، فقد تبيّن أن كل دولار يتم استثماره في جهود ومشروعات استعادة الأراضي، يمكن أن يحقق عوائد اقتصادية تصل إلى 30 دولاراً. وفي هذا الإطار، تتصاعد الدعوات إلى تضافر الجهود بين الحكومات والمنظمات الدولية لدعم هذه المبادرات، والعمل بشكل مشترك لضمان استدامة طويلة الأمد، يضاف إلى ذلك تبادل المعرفة والموارد لتحقيق تقدم حقيقي ومؤثر في هذا المجال. أما بالنسبة إلى الطموحات المستقبلية، فيكمن الأمل في أن تؤدي هذه الجهود إلى بناء مستقبل بيئي مستدام يحافظ على صحة التربة، ويدعم التنوع البيولوجي. ومن خلال المبادرات البيئية المبتكرة، يمكن تحقيق رؤية شاملة تتجاوز الحلول المؤقتة، وتدعم استدامة الأرض وحياة أجيال المستقبل، ما يجعل إعادة تأهيل الأراضي أكثر من مجرد خطوة بيئية، بل استثماراً استراتيجياً في مستقبل البشرية.