حين يكون الحديث عن الأم، تعتقد أنك أمام عمل حميمي شاعري سيجعل مشاعرك تتضخم نحو جميع الأمهات.. ولكن ربما هناك بعض الأعمال التي تجعلنا نرى وجهًا آخر للأم.. ويبقى داخلنا طفل صغير يتساءل هل كانت هذه الأم مخطئة حقًّا.. أم أن الظروف أجبرتها على ذلك؟.. وكونها أمّ هل يعني أنها يجب أن تكون أقوى من كل الظروف..؟ قرأت مؤخرًا نوفيلا (غرفة الأم) للكاتبة السعودية «ليلى الجهني»، فغمرني الأسى والحزن على أسرة كانت تبدو سعيدة، تتكون من الأب والأم وزياد وغادة وعالية، فقدت هذه الأسرة كل شيء بعد موت الابن البكر؛ «زياد» ذلك الشاب المراهق الذي أراد أن يقضي الإجازة الصيفية في أبها، ورفضت أمه، ولكن والده وافق على مضض بعد إلحاحه، سافر لينحدر من جبل ويعود لهم جثة هامدة.. فتنكفئ الأم على نفسها ولا يصدر منها سوى اللوم المستمر للأب الذي هجرها وهجر البيت وبناته. «غادة» ابنة السابعة عشر التي وجدت نفسها مضطرة للاعتناء بأمها التي ابتلعها الأسى، وأختها «عالية» التي تصغرها بعام واحد. ولكنها لم تشبع بعد من حنان الأم وتجاربها والتعلم منها، لم تتعلم منها سوى الانكفاء على ذاتها، والبقاء حزينة وهادئة، حتى تسنّى لها الابتعاد عن جو البيت الخانق، وتعذرت بدراسة الماجستير في جامعة الملك سعود، ثم الابتعاث للخارج لدراسة الدكتوراة، ولم تعد إلا حين وصلها خبر وفاة أمها التي آثرت أن تلحق بابنها «زياد» متناسية أن لديها ابنتين هما بحاجة لها. «عالية».. التي رفضت حتى أن تدخل غرفة أمها وتساعد أختها في إفراغ محتوياتها في طقس التخلص من أغراض الميت، ربما لأنها تلوم أمها ولم تسامحها على أن أخرجتهما من حياتها بسبب فقد ابنها، تمرض تلك الفتاة الصغيرة، وترتفع درجة حرارتها ويذهب بها والدها وأختها للمستشفى، والأم لا تسأل عنها ولا تعلم إن كانت مريضة أو سليمة.. مَن الملام هنا..؟ لكن كيف مرت بهما تلك السنوات، بعد غياب أبيهما وانعزال أمهما في غرفتها التي يملأها الأسى، كما كررت ليلى كثيرًا.. كيف استطاعت «غادة» أن تتخذ قرارها بالزواج والبعد عن أختها التي ارتبطت بها، وكأنهما هما فقط مَن بقي في هذه الأسرة.. هل تَوافق ذلك زمنيًّا مع وقت دراسة «عالية».. تشعر أن الأسى في الرواية ابتلع بعض ملامح الشخصيات وفقدت الكاتبة جزءًا منها، ولم تقنعنا بها بما يكفي.. وكأنها صديق يحدثك عن حادث مؤلم مرّ بعائلتهم قبل سنوات، ويختصر لك بعض الأحداث ربما كي لا تملّ أو أن التقادم جعل هذه السنوات تمر دون أن يكون لها أي اعتبار في ذاكرته؟ «غرفة الأم».. عمل قصير جدًّا من منشورات دار أثر، جاء في 76 صفحة. يُقرأ في جلسة واحدة، ويخلف أسئلة لا تنتهي حول الفقد، واللوم، وحب الأبناء، ولوم الأبناء لوالديهم الذي لا يعبرون عنه أحيانًا إلا هروبًا وابتعادًا..