الذي يحتويني فضاء جديد ،ونقلة اخرى شاسعة ببعد المسافات، لابد بالضرورة ان تكون الصورة فيها أوضح، اخرجت زفرة عجيبة من صدري، وربما شعرت بوعود تمضي بعضها كجنائز وبعضها الآخر كبرق ليلة البارحة، ورياح سارية في ليالي الصيف تميل الشجر، وتذر الأوراق متطايرة في عنان السماء، وقلبي كسارية يتسلى بهواجس شاعري مرة، ويفتش بعمق في خيال الاساطير وفي الكهوف وبيوت النمل ويتأمل الكائنات الحية من دواب وقباب يبحث عن شيء في لا شيء مرة اخرى، ليس لي في هذا البياض لا غادة ولا جليلة ولا زرقاء يمامة، تقودني في هذا الفضاء... لم اعد احفل بسخرية شاعري الذي يرقب اصراري المنبعث من قلب يائس ومتعب، يشع في لحظات لا املكها والدلالة التي تضمنها قوله لي، بعاطفة وسخرية في آن: اكتب احلامك يا سقراط على الورق، امرأة في الحلم، وفي الواقع فكرة وليست امرأة مثالية، احسن لك يظل الحلم ممتداً دون ان تصحو..! وسبحت بي احلامي بعيدا وفهمت في ذات اللحظة ان شاعري بالطبع لم يمزح، ولم ارد اختزاله بكلمات انفعالية ونتوه معا في حوار، اردت في قمة يأسي الفظيع ان تبحر أحلامنا انا وشاعري الى شاطئ طويل وصاف وناعم ونظيف، له سفوح خضراء تستقر فيها الاحلام والاوراق متملصة من ثقل رؤوسها، ولتسقط الى جانبها كما سقطت البارحة شجرة جارنا الراحل، مستقرة ومغطية سيارة صديقي الكناس قريب عمتي المريض بجلطة في القلب، قلت متمثلا القرف في أبلغ صورة: اسمع انا مش ناقص، خليني ساكت افضل لي، «انت في وادي وانا في وادي ثان»..! خذنا معك، خلينا نشوف الجنان التي تحلم فيها، انت معنا ما عنك وعن هذا الغيار الكثيف.. وسبحت بعيدا بعد ما أيقنت ان شاعري، لن يتنازل بسهولة عن كبرياء ليس في وقته، وسخرية مرة ربما تدخلنا في متاهات ومسارب وكهوف واساطير وملاغاة لم أنتظرها، وبدون زمن رأيت بصيصاً من نهار عدن، ولم أرد مخاتلة شاعري الذي مازال يناكفني في غفوتي تلك، ولم اتنازل عن صمتي بعد ما رأيت احداثاً مفزعة، تمر في هذه الجنان الخضراء الساحرة الصافية، وشاعري يثرثر: انت مثل صديق كناس اخرس لم يكن محبوبا في ذلك الزمن، عرفته في حي المرقب مع شلة الاصدقاء الكناسين، كان بينهم فتى آخر كناس شقي، هو اليوم واحد من الاثرياء، يستدرج الكناس الاخرس كل ظهر يوم، تهيج في ايام الصيف ليفتح بطيخة حمراء يحضرها معه، باردة كل يوم بماء الزير، ولم نكن نعرف من اين للكناس الاخرس كل هذا البطيخ..؟ وظل صمتي سيداً في هذا الفضاء، وشاعري الذي لم اشك يوما في سعه خياله، يعيد علي ويكرر قصصاً سمعتها مرات، جاءت في مناسبة اخرى، وينسي ويحرف على ما يريد حسبما يقتضيه الحال، وفي هذه المرة ركبت معه على الكناس الثري، قال شركة الكناسة التي كانوا يعملون بها، طردت صديقه الكناس الثري، وكان فقيرا معدما مثله وسلب حقوقه، وعزت عليه نفسه بعد ما اصابه الثراء، وصاروا هم يدورون عليه ويسترضونه، قصة خيالية يريد شاعري بها ان يبدد قرفي، واذ لم يحظ مني ببنت شفة، نظر في وجهي وضحك، وبجدية لا تخلو من ذات سخرية اتعودها منه دائما، يسألني: الاخ مازال في الجنان..؟ نعم..واذا سمحت نقطنا بشيء من روحك المثالية..! شعر شاعري بمدى الحالة التي بت فيها اعاني، ضحك محاولا مداراتي وممازحتي دون ان يتخلى عن سخريته: وماذا ترى في عدن..؟ حبكت معي، وأحببت ان أفضض عن نفسي، وتذكرت ان احد الاصدقاء الكناس، وصف حالتي انها تدور حول صورة محورية، امرأة قد تكون من الوهم، وربما ظلال من النساء بينهن حورية، وقد تكون امرأة هامشية، وطاب لي اتوه شاعري غصبا عنه، وربما امتحن ذاكرته ومعلوماته التاريخية وفي ذهني شيء آخر ليحدث في نفسه بما يشبه المفاجأة، قلت له: معركة طويلة اخرى مع اليهود..! كيف..؟ سألني شاعري بلهفة، وصرت انظم له حكايات، سمعت بعضها واخرى قرأتها، وشيئا من واقع الحال ممزوجا بلهفة شاعري، وحالة إصغائه العجيبة وطول صبره على صمتي، اضفت له بهدوء: الحكاية طويلة، والمشاهد اكثر من ان احصرها لك، في هذه اللحظة عربي يقتل يهودياً، وانت تعرف ان اليهود خبثاء، يسعون وراء المال، ولو كانت دماؤهم هي الثمن، اهل اليهودي المقتول يقولون، انتم العرب اذا اردتم شتم انسان لا تحبونه تقولون يا يهودي دية اليهودي اقل من دية المرأة عندكم،ونحن اذا نقبل بدية في دم القتيل اليهودي..! صمت قليلا استدرجه، وبقية الحكاية في فمي ليستوعب شاعري، اريد اضعه في امتحان اظنه صعباً، لينتفض بذات السخرية بين المصدق والمكذب: وصرت تحكي قصصاً ايضا في جنان عدن..؟ ظللت صامتا، محتفظا بتماسكي ورباطة جأشي لئلا يلمح شاعري جهداً أبذله فيفسد خطتي ولن افلح في تمرير ما اريد عليه، رتبت في ذهني بسرعة لكل شئ، لئلا اجعله يخرجني مما اريد باسئلة، ليست من صميم خطتي، بادرته قائلا: القصص مسألة ثانية! انت تعرف ان اليهود محميون، لهم محميات في كل زمان ومكان، ونحن العرب ياما حميناهم على مدى التاريخ، انظر هذا شيخ عربي، يقدم عربياً للعدل والقصاص، بسبب قتله يهودياً ليس مثل ما تعتقد، لينال القاتل عقابه ويرضى اليهود، انما ليرضى من يحميهم، ويرفضون اليهود القصاص ويريدون المال، مال يدفع الى الوريث اليهودي، يملأ طاقيته به. قلت له بذات الجدية والرغبة في مواصلة الكلام، قاطعني شاعري، وانفجر ضاحكا، وبذات السخرية قال: تؤلف علي يا ذكي..!؟ شوف لك واحد على قدك، قل حكايتك هذه له، انا قريتها من زمن بعيد، لما كان اليهود في القرن الماضي في كل مكان، والشيخ الذي تقول عليه، كان يعرف انه لا يرضي من يحميهم، انما اراد ان يخيفهم، ويقول لهم هذا عدلنا وهذه عدنا، والدليل انه لم يبق في عدن، خوف من بطش القبائل العربية يهودي..وخل انت، الله يرحم عدنك!* في فضائي الجديد وفي عمق صمتي الذي لم يستطع شاعري ان يبدده بسخريته، رأيت شمس الاموات القزحية، ترسم خيوطها في سماء مدينتنا، بعدما هطلت امطار صيفية، لم تلبث ان توقفت وفرحت بها امي، وخرجت في هذا العصر البديع، تسحب مكنستها وتدفع بها المياه الى نهاية الباب الخارجي، وتكنس خطوات كثيرة عبرت وش بيتنا قبل ان تكبر وتتغير، ومازالت تواصل كنسها حزينة دون عناء، على غير المألوف اذا كانت تعمل، فالزمن قبل اذان صلاة المغرب، حرصت ألا تفعل ليبقى انينها وحنينها مدفوناً في صدرها، خوفا من صوت ابي الغاضب، وسخرية عمه اخذت قهوتها في مكانها، وزمانها المعتاد المواجهة للباب الداخلي، لترقب حديقة احيطت بشبك حديدي، واودعت فيها دجاجها وارانب جديدة، جاء بها لها قريبها وصديقي الكناس المريض بجلطة في القلب، احضرها لها من سوق في طرف المدينة امس، وصارت تترضى وتتودد الى من يحضر الاكل المناسب للدواجن من السوق البعيد، واختي تمشي ساري في ارض الحوش المغسولة بماء المطر، وبنشوة عارمة تسري في النفوس المتعبة، صاح ساري بصوت عال، وخبط بيده في الماء وشعر شاعري، ان الوقت غير مناسب فخرج ماضيا، يخب في دروب الصيف والليل الطويل، وبقيت لي المسافات.. ازدادت حالتي النفسية سوءاً ففقدي زرقاء اليمامة، اشعرني بفقد شيء مهم، كما لم اشعر بفقد من سبقنها، أجزم اني لم ار وجهها مرة واحدة في حياتي، فقط تخيلت اني سمعت صوتها الامر ثلاث مرات، وصار لابد من تعويضها في هذه الحال، بأفضل منها دون ان اتنازل عن شيء من صفات، ادرجتها في مخيلتي لبطلة النص المنتظرة، ولابد أن اعترف بان غيابها، اورثني الهم والصمت زيادة على هواجس، ووساوس تكاد تأخذني الى عالم المجانين، واصبح كثير من اصدقائي الكناسين، يتحاشون الحديث معي، يطول غيابي المجاني في غرفتي، والنظر في سقفها الصدئ بدون فعل، حساسيتي عالية والشك يسيطر جدا عليَّ في كل شيء، لم يعد هناك باب انتظر تقتحمه فجأة! زرقاء اليمامة، وتدهم عالمي وتخيب ظنوني، بلغ بي اليأس والاحباط مبلغا ما عهدته بنفسي، ليس من المناسب ان اظل بهذه الصورة، مسلوب الارادة والفعل، تجاه واقع مؤلم، ليس لي فيه ذنب الا اني انتظرت بطلة نص منتظرة، لم اجد تلك المواصفات التي رسمها خيالي في الواقع، ثم جاءت احداهن وفرشت طريقها بالورد وفجأة! غابت، بعد ما تعذر بقاء غيرها لسن بتلك المواصفات، وليس بيدي حيلة في وعد قطعته على نفسها، لم أعد احتمل فحكيت الى اختي في لحظة تجل، وضعف وفرح وانتشاء ممزوجة، شاكيا: انت اختي الكبيرة وهذه واحدة، والاخرى لو حكيت لأصحابي واصدقائي الكناسين، وهذا امر مستبعد تماما، لاني مضطر اقول لهم في النهاية، «ما يحس بالنار الا رجل واطئها» اخير انت اختي العودة وتعرفين احساس المرأة..! نظرت اختي في عيني طويلا، تتأمل وجهي وضحكت، وللحظة تصورت اني ربما نسيت ماذا قلت لاختي، ومازالت تنظر في وجهي مبتسمة، فقالت: وذي امرأة تنزل من الرأس، اسمح لي وامرأة فوق الكتف، انت تعنيني اختي واعرفك مجنون، الامور ليست بهذا الشكل..! ادارت وجهها لتدلف الى الداخل، واحسست بشيء يقطع امعائي، وصحت بها: اتكلم جد..والله! ضحكت وغابت في داخل البيت، وصعدت الى غرفتي، كأني امنت اختي قلي، واردد لها:«الله..الله بالامانة»، تمددت على سريري، انظر الى مالا نهاية بين شقوق صدئة في سقف الغرفة. ليس لي في دنيا هذا الفضاء الابيض، امرأة منتظرة تصلح ان تكون بطلة نص منتظرة، اصبحت حياتي حلما ممتدا في الصحو، وفي المنام، هاجسا بين الواقع والحلم، سحابة صيف بيضاء لا تمطر ولا تغيب، وبلغ عمر وعد ثلاثة ايام وثلاثة اشهر، وصوت ساري يصلني احيانا، مرة باكيا ومرة يصيح يلاعب قطع هدايا كثيرة، ليس لي ولا أظن ان لاحد من العائلة فيها شيء، امي وزوج اختي الكبيرة، صديقي الكناس الطيب ربما ساهما ببعض اللعب، اشعر احيانا بقصور تجاه ساري، وألمح بعض عتب في عيني اختي الكبيرة، تنتابني لحظات العزلة القاتلة وتجعلني اتلذذ بها، يخوفني اصدقائي الكناسون الطيبون، ويفرطون في تحذيري التمادي والجنوح الى الجنون، احدهم اسمعني بيت شعر عربي، نسيت بيت الشعر والقائل بوصف حالتي، والآخر صديقي الكناس المريض بجلطة في القلب قريب عمتي، البارحة تحدث عن صديقه الفوضوي الكناس الماهر، صاحب الساقين الطويلتين الذي يمتر بها الشوارع، ثم غمز ومستني اشارة كلمة منه خفية على غير المعتاد بوجع، لم احسب اني انتبهت لها في وقتها من يومين، وليس لشكوكي وظنوني ووساوسي وهواجسي دور، في تأويل ماقال: عسى ما تصير زي الاخ «كافكا»، تدور المسافات عندك في الشوارع على ضوء زرقاء يمامتك، ويا رجل أصلح..! شعرت بحاجتي الشديدة الى النوم، وفي الحلم جاءني صديقي المريض بالقلب وقريب عمتي باسما: ما قلت لك..؟ سألت بلهفة: ماذا قلت..؟ ما تصير مثل «كافكا»..! من هو كافكا هذا..؟ قلت لك صديق كناس مجنون يدور في الشوارع، نحن الذين اطلقنا عليه الاسم بعد ان رفض رقم الكناسين..؟ وما دوري، وما علاقتي انا بصديقك الكناس، اخذ الرقم ام لم يأخذه، سمي الكناس كافكا او ابليس، هذا الكلام سمعته منك البارحة.؟ ضحك صديقي الكناس المريض بالقلب وقال: هدئ اعصابك!، خلاص يمامتك بلغتني ان ابلغك، بان اسباباً عرقية وثقافية ومادية واجتماعية تفرض ان تنساها الى الابد..! صحوت وبي فجيعة مهولة، يحيط بي الظلام من كل ناحية دون كلام، ودون وجود لصديقي الكناس المريض بالقلب، حمدت الله، اغمضت عيني وغطست في النوم من جديد.. * الرواية وردت بتصرف في مذكرات مستعمر ومستشرق بريطاني في نهاية القرن الثامن عشر..