صحوت وقد فقدت صوتي، وبي حالة من الهذيان وزخم الكلام، العجيب أن أحد كناسي الشوارع، زارني وطيب خاطري مما حل بي، ولم يبخل عليّ بمداعبات أخرجتني من كآبتي، حاولت في البداية أن أصمد في مواجهة سيل كلماته العذبة، وقبل ذلك ظلاله البهية التي كان يختلس معها الكلام بأناقة شديدة، وحرص لم أكن في حاجة إلى من ينبهني له، كي أظل في ظل صديقي الكناس، محتشما عزيزا عفيفا، كان فسيحا معي هذا المساء وجاد لي بحكايات، وأسرج فضاءات الليل بوميض من عبقريته البلاغية، وفي أبوة طاغية ظللت أنتظرها منه طويلا، قال لي في أول الحلم: لا تخمخم كذا! المسألة ليست واضحة، بس افتح لي صدرك.. لم أرد أن ألين ولم يكن هذا ممكنا، قلت: تلك المرة الوحيدة في حياتي التي استطعت أن أتخذ فيها قراراً.. وبسرعة بديهة كالعادة، ضحك ورد: الله أنت بتحسبها إلى آدم.! وشكوت له من سخرية شاعري الذي سافر، وترك أزهاري ورأيت في ذات الحلم أمي، تطلب مني زيارة أختي الكبيرة في المستشفى، مصحوبة بالطفل الصغير، يتيم! أختي الذي يدشن شيخوختها بالتبني، لم ولن أرد أن أعترف بهزيمتي، الطيور الحرة تموت في الأقفاص، وبطلة الرواية التي انتظرتها طويلا، لن يدم اعتقالها ولا ستكون نهايتها معروفة سلفا، الموت أو الانتحار، وفي هجعة أحلامي، طأطأت رأسي، ويبدو أني لم أعد أحط بشيء إذ تسللت تلك الرائحة إلى أنفي. ورأسي، وصاح صديقي الكناس مغنيا: يا ورد.. قلبي أنا ما.. ارتوى، ما الجمال يا ورد، يكفي ضما.. خلي الضما، للرمال يا ورد.. كنت في ذات اللحظة المنتشية قد اتخذت ثاني أصعب قرار في حياتي، بإطلاق سراح بطلة النص التي لم أعد أذكر، أو أعرف هي التي تنتظر أم أنا الذي انتظرت.. أختي الكبيرة حينما حادثتها في الحلم، حرضتني بفرح غير خفي، وغير مستغرب وبلهفة، ونحن نعبر معا بوابة الخروج، أنا وهي والطفل اليتيم الذي لم أر وجهه، إذ قالت: هيا اختر له اسماً! وبغمزة في لكنة مشبوبة بما يشبه البكاء، أضافت وهي تضغط على مخارج الحروف، لتكاد كلماتها تمشي بيننا على الأرض: أنا تركت لك تسميته، واخترتك أنت بالذات.. وحينما هززت رأسي لها معارضا في الحلم على هذا التكليف، ضحكت وقالت: هم سموه اسماً حلواً.. ربما لا تقبل به، وأعطونا فرصة نسميه اسماً آخر..! أحيانا أمي تصمني بجلف وقسوة القلب، زفرح في ذات اللحظة فمرة أشاكسها، وحينا آخر أصمت، لأنها لا تعنيني إنما تنتقم من أبي الذي لم يؤدبني، والصدق أنها سلبتني كثير من خصوصياتي كرجل، وبت أقدر الأشياء مرة بقلبي، ومرة بعقلي ومرة بدونهما معا، وخشيت لو قلت لأختي الكبيرة في الحلم )لما نصبح في البيت، نتفق على اسمه بالتصويت!(، فترفض هذا الخيار.. ومعنى هذا أنها ستبلغ أمي، ومجددا ستتهمني بقسوة القلب والجلافة، وممرضة زنجية عجوز منتفخة الأوداج ترتب أوراقها، وتلاغي أخرى ربما هندية، تسحب في يدها على عربات كوم من الأطفال، لفوا فرادى في أقمشة بيضاء، كنت قد دونت اسم الأم وطلبت اعطائي اسم الطفل، أختي تقف خلفي تنتظر أنهي كلمات متناثرة، لم تفهم منها العجوز الزنجية كلمة واحدة، فقالت للهندية التي تجر أطفالاً، مشيرة نحو أختي: هذه ما ما حليمة.. فرحت إذ لم ترد أختي الكبيرة، على إشارة الممرضة التي لا تعرف حساسيتها بعنف، فقد لاحظت قبل وصولها من غرفة النساء لتختار طفلها، أن الزنجية العجوز تفقدتن بدقة شديدة، وحينما حاولت الكلام معها فقدت صوتي، وفي طريق الخروج وفي نهاية الممر الطويل الذي ينتهي برجال، يفتشون النساء الداخلات ويقبضون على المأكولات، رأيت في خارج هذا الممر أطفالاً كثيرين يلعبون ويطاردون بعضهم وباعة زهور في الدخل الأيمن وبوفيه قهوة ومعلبات، حاولت أميل بها إليها، فوقفت خلفي لحظة، وصاحت بي أختي: اصح الولد يجيء له لفح برد.!؟ وقلت لها في الحلم بسرعة خاطفة اسمه )ساري!( يا أختي.. وحنيما فتحت عيني لأول وهلة عرفت أن شاعري حل من السفر، فوجدت أزهاري حية نظرة فواحة تشم الحياة! فقدت صوتي تماما، واختفت البحة التي جاهدت لأخرج من بين نسيج فحيحها، كلمات صرت في حيرة من أمري، أخي الأصغر سخر مني بعد اجتماع مصغر بين أفراد الأسرة، للتصويت على اسم الطفل )ساري( وغاب عنه أبي، سألني أخي في إشارة بارعة: أنت شربت في فنجاني.؟ ضحكت وحينما لم أستطع الكلام انسحبت، ومثلي فعلت أمي وانفض الاجتماع، صارت مداولات قليلة حسمتها أختي في لباقة: هذا اسم فني جميل وبديع، له عالمان.. وصمتت، وكأنما نظرت في لا شيء، وواصلت: ) ما أحد قلي وش رأيي في اسمي.. وضحكت.. خل الناس تقله.. ساري! اسم حلو، وعندي وفي صدري أحلى..( واحد من أصدقائي كناسي الشوارع، حاول محادثتي وحينما عجز يفهمني، أبدى لطف تجاهي وقال لا تتكلم كثيرا، لئلا تجهد نفسك، وضحك وقال هذا )مضبوط( على شأن الشغل، وحينما ضحكت معه هز رأسه في الهواء علامة القرف: يا حظك! اجتهادات كثيرة تبذل في محاولة لاستعادة صوتي المفقود، لم أعرف من قبل أن لهذه الحالة كل هذه الدراما، سمعت اجتهادات كثيرة في تفسير الحالة التي تمر بي، وتلقيت وصفات شعبية عديدة للعلاج، وكنت على رضى كاف بما أنا فيه، وخوفي من خطر غير منتظر.. الدكتور وأمي يقولان بطل دخان، وكان سلواي الوحيدة بعد غياب بطلة الرواية، وفي ذهني ما يشبه اليقين أنها ستأتي، ربما أريد بطلة بمواصفات محددة، أن اللحظة التي تستدعي مني هذا الخيار لحظة مهمة، ولذا أريد بطلة مهمة تلك التي ترقص فوق الحروف كنجمة، تضيء للسارين دروبهم في فيافي الخوف، أريدها صاحية تعرف معنى أن تكون، وأسخر أحيانا من نفسي، حينما يأخذني اليأس إلى أنها لن تأتي، وتلفني ظلامه كتلك التي عبرت فيها البطلة الأولى التي أحب أعزي نفسي بفقدها، انها الرقم التجريبي )صفر..( واستمتع بصمتي.. فستأتي.. وبقيت لي هواجسي ووساوسي حبيسة صدري، عينياي وحداهما اللتان تتحركان في وجهي، أتحسس شيء ما إنما تعجبني اللعبة، صارت حالتي لعبة! أعرف رأي الطبيب بدون ادعاء ومكابرة، نمزح في مرات أقول له ما تصرف لي إرادة؟، يحذرني وصار يعرف هواياتي، قلت له قبل أن أفقد صوتي، ربيت دجاجاً من كل الفصائل وزاوجت بينه، وأنتجت دجاجاً بمواصفات محددة، لواحدة من تلك الدجاجات التي وليت عليها ديكاً وحيداً، لها صفة أصدقائي كناسي الشوارع، فما ترى صرصارا أو فأرا أو حشرة تجري في حوش البيت، أو تحت النخلة الوحيدة إلا والتهمته، هل تعرف كيف ماتت؟ لقد صب أحد الدخلاء على مهنة الكناسين، مواد كيماوية لتقل الحشرات التي كانت زاد دجاجتي العظيمة فقتلها، وحزنت حزناً لم ينسني تنكيس الحمام وميلته لفترة وجيزة، لم أنجح في هذه الهواية، ومثلها كانت تجربة تربية الأرانب، وتعرف بأني أربي الآن طيور زينة ليس إلا، والزهور.. وكتبت على بطاقة وناولتها شاعري المنكوب، محفوفة بباقة من أزهاري، يأخذها معه للطير المرفرف إلى سماء جدة )حينما يسافر الصوت لا تفيد كل الحواس..( وكان يقرأ معي لأني بلا صوت، مجرد فاغر كما قال مرة وقالت أمي، وقال لي بعد أن فرغت من كتابة بطاقة، هديتي برفقة الطير المرفرف إلى سماء جدة: إيش رأيك نفتح معا محل زهور..؟! عرفت أني لو انفعلت! لدخلت معه في معركة خاسرة.. وفي عمق صمتي نبتت لي امرأة عربية، رأيتها تزيف صورة بطلة رواية منتظرة في عيني، وفي عز صمتي وهواجسي ووساوسي ببطلة نص متفردة، لم تظهر من قبل لتضع بصمتها، رفت عيني شاعري الذي لم يعلم إلى حد الآن، بما مضى من حكاية من البطلة التجريبية )صفر(، وقال )من حوض أزهارك..( وظل الصمت سيدا. شيء منطقي أن في الأيام الأربعة التي مرت بي، فقدت صوتي بها أن تتغير حالتي النفسية بسرعة متناهية، أشهد تحولات سريعة ومفاجئة دون أن يكون لي تأثير مباشر، أحيانا أستخدم التصفير حينما أحتاج إلى شيء ممن حولي، وأحيانا أستخدم التصفيق في البيت، لم أعد أستطع تحمل أحد، يتحدث عني ويصف حالتي بشكل مباشر، أصغي للذين أحبهم وأحس ببراءة في كلامهم وعفوية، ربما كانت مثل هذه الخاصية عامة ولكنها في حالتي وظرفي شيء آخر لا يحس وفاقد الشيء لا يعطيه، )كناسي( وهنا نقطة مهمة إذ قدر لي أن أظل بهذه الحالة، هم كثر ولأنني لا أستطيع أحصيهم، فلي شاعر واحد ومئات من أصدقائي كناسي الشوارع، ولذا سأظل أعتمد عليهم وعلى محبتهم لي، دون ذكر أسمائهم وهم الذين عانوا كثيراً من ذكر الأسماء، اسم شاعري وحده أما صفة )كناسي( فلهم كلهم مع حفظ الألقاب. كناسي ابن كناسي أب عن جد، ظريف وقليل الكلام واسع الخبرة والمعرفة، فاجأني وزارني مواسيا وربما للصفح في أيامنا الخوالي، كناسي الذي فتح لي باب الكناسين جميعهم، الآن يتيح لي في ظروف لم أتوقعها أبدا السفر معه إلى مكة.. بيننا كلام كثير، وودت أن أقول له: في العشر الذبح قبل حل الإحرام حرام! وتذكرت أنه صفحة بيضاء بديعة الجمال، يفتح لي من جديد أفقا في فضاء أصدقائي الكناسين، وحينما هممت أن أشكره تذكرت أني فقدت صوتي، قبلته قبلة العيد ومضيت في طريقي، وقبل أن يمضي في طريقه، استوقفني وقد أبصر بما فيه الكفاية حالتي، وقال خذ لك هذه الوصفة، بعد أن ظل يسألني عدة أسئلة، أهز له رأسي بعد كل سؤال، وشاخصة عيني في وجهه وفمه، ربت على كتفي وقال كلاما مريحا. صرت في البيت مزعجا جدا، كسرت كثيراً من الكؤوس والفناجين، بضرب الملاعق على حوافها عندما أريد شيئا، لا أتردد في استخدام أي شيء قريب مني يصدر صوتا عاليا، ويلفت نظر من أريد له أن يصحو، وصرت من حسن الحظ بعيدا عن التطورات التي حدثت في حياة )ساري(، أختي صارت تسميه ابنها وعلينا جميعا أن نعترف به كرجال بما فينا زوجها، وعلى نساء العائلة أن يرضعنه ليتم له هذا الشرف، وفي داخل نفسي الصامتة من دون أن أفقد صوتي، كنت موافقا ومصوتا على كل قرارات أختي الكبيرة، كنت في ذاتي مزدحما بصمتي، وبما فيه الكفاية ومكبورا، ولا يؤخذ برأيي بين الرجال فلا داعي للهم، وبموقفي هذا فقدت أختي أهم أسلحتها.. حينما أوغلت الكلام في صمتي، صارت الهواجس والوساوس ترتع في الظلام الخالد، أسلي نفسي بأي شيء إذا انصرفت نفسي عن القراءة، مرات أجد لي أصدقاء كناسين بين حروف الروايات، وأرتبط معهم بصداقة عابرة، وربما نظل أصدقاء نتبادل الكلام والمعارف وأسرار المهن. لحظتها كنت أبحث عن وصفة )كناسي(، ربما تركتها فوق الباب في المدخل بعدما خرج، مددت يدي وأخرجت أكياس وصفة الدواء، وفي عودتي الى مكاني وجدتها تنتظرني، ربما شع في عيني بريق الفرح، وربما شممت ذات الرائحة اليوم بعد صلاة العصر، ولم أبد كثيراً من الاهتمام، اقتربت منها خطوتين بذات الإيقاع، ودون أن أضع عيني في عينها، مددت يدي لها وصافحتني، ودون كلام أشرت لها بالجلوس، قالت مباشرة: اسمي غادة؟ وهززت لها رأسي مرحبا، وأنا أمد لها يدي لتجلس بكل احترام، أدركت أني بدون صوت في ذات اللحظة، انصرفت عنها بتقليب أوراقي، ورأيت إلى جانب حقيبة يدها الزهرية كتاباً أبيض صغيراً، كنت أختلس النظر إليها في غمرة انشغالي، فلماذا العجلة، أليست هذه بطلة النص المنتظرة؟ وبدأت لي قضية أخرى جد مهمة، فهذه بطلة تقتحم الأبواب وتدخل البيوت، ولابد أن تترك لي بعض الحرج في وجودها عندي في أي وقت، نظرت في وجهها، ورأيت براءة الطفولة ترقص في وجهها، وليس لي سلطة على لسان أحد، نساء البيت وغيرتي لا تعترف إلى هذا الحد بالبراءة، ومن يقنع أبي بجنوني وعبثي..؟ بت شديد الخوف عليها، فمازال فقد البطلة )صفر( يؤلمني أشد من فقد صوتي وقلت لها في نفسي طبعا بدون صوت، ودون أنت تسمعني: أنت بطلة رقم واحد! وأشرت إلى الكتاب الذي بحوزتها، ابتسمت ورفعت إبهامي إلى أعلى، وفهمت لمحت و مضة عجز في وجهها، وقدرت أنه أصبحت على يقين أني أخرس، كما قدرت بيقين أني في واقع وليس في حلم، كما كنت في واقع سلفها البطلة رقم )صفر( من قبل، فقدت أشياء كثيرة ومازال لدي ما يعني على رؤية ما أريد بوضوح، ففي وسط حشود من الأشباح والظلال التي حضرت في ظل ظلي الخبيث، ميزت بطلة النص )صفر(، وحدث ما حدث من اعتقال وسواه دون كلام، لقد وضعتني على مفترق الطرق في لحظة من الزمن ولم تكتف، بل ظلت تناور بصمت، في ظل تجاهلي لها وانشغالي بالآخرين، في إرادة قوية إلى آخر لحظة، أما غادة التي باشرتني باسمها مباشرة من اللحظة الأولى، ومن الأكيد أنه صحيحا، فهذا حقها الذي ربما لم تصل إليه من سبقتها، ويحسب في ميزان هذا الوجه البريء الذي تخيفني فيه سذاجة في عذوبة ودلال لا يخفى، كنت أنظر إلى الكتاب مبتلعا صمتي السحيق، إلى أن أصبح وجهانا مألوفين لبعض، وقد ودعنا القلق والخوف والخجل، وصار لزاما أن نبحلق في وجوه بعضنا لنفهم الكلام بدون كلام، وتضطر في أحيان قبل أن نهتدي الى الكتابة التي لم تكن مازالت مهمة، الى التحديق في الوجه بسبب حالة الصمت، تبينت في هذه اللحظة النادرة من التحديق، وجهاً ليس بغريب علي وصمت. للحظة الثانية التي وصلت فيها غادة إلى البيت مباشرة، وانتظرتني ساعات طويلة لم أكن على علم بها، ودون ادعاء أني فكرت بها طويلا أو توقعت ساعة مجيئها، وجدتها قبلي في البيت وبالتحديد في غرفتي، صارت أكبر قليلا، وتبدلت فيها أشياء كثيرة جدا وبقيت بساطتها، لبست كنزه سوداء ورداء أحمر وكحل طبيعي، رشيقة مع بدانة ظاهرة لا تعيب جسدها، تتحدث لتفجر صمتي، ولا تختفي من وجهها علامة الغضب، وتظل عيني اللتين تسرحان. الليلة بلا رقيب في وجه غادة، وما تلبث أن تستقر فوق أرنبة أنفها العظيم، وربما يتسرب الخوف إلى كلانا بدون مبرر وبدون ذنب، وليس من الطبيعي أن أسألها الآن لماذا جاءت وكيف ومن أين؟ كلها أسئلة طبيعية ومشروعة، فقد عرفت مباشرة أنها تنتظرني في الصالة ساعات، دون مضايقة من أهل البيت وهذا يكفي.. كنت في باب نافذتي، أطل إلى أطفال يلعبون فوق درجاتهم، ويتحدثون بكلام لم يصلني منه شيء، في الساحة الخلفية لبيتنا بعد أن غيرت ملابسي ووجدتها إلى جانبي، حدث كل هذا ببساطة شديدة قالت لي، ولم أعد أجد مبررا لسؤالها عن شيء، إذ يكفي عجزي عن الكلام دهشتي في وجهي.. باشرت غادة دورها بطلة نص منتظرة بثقة أدهشتني، إذ أكدت لي في ما يشبه اليقين، ومازال لدي أحيانا قناعة في بعض هذه المسلمات، أن صوتي سيعود مجلجلا كما كان، أعجبتني كلمة مجلجلا وحاولت أن أكتبها، فناولتني بسرعة الكتاب الذي أمس بحوزتها، غادة لم تخف )اتكيت( في رقة انسجامها، حسبته في بادي الأمر تمنع ودلال وحذر، ولم أحسب أن هذا مع البساطة الممزوجة بحدة، ستظل أهم مفتايح وسمات بطلة نص منتظرة، وظننت أنها على قدر كبير من طيبة لم تصل إلى السذاجة المطبقة، وكانت أكبر عقبة ستواجهني ظن غادة أني أعرفها، فهل كانت غادة على قناعة، أنها البطلة بذات المواصفات التي أنتظرها..؟ وصبرت على براءة غادة المزعومة، وفرحت بالعفوية التي تصدر في كلماتها أحيانا، وصرت أضحك معها بضحك يشبه السعال والعواء، في وسط رقرقة ضحكاتها الخجولة، وأصرف وجهي قليلا حينما تضحك بدون تحفظ، كي لا أستبين ضخامة فكيها، أبرز وأكبر ما يميزها جسديا، في وجهها فكيها وأصابع يديها النحيلتين، ورائحة الخوف والحذر والثقة التي لم تتنازل لحظة عنها، لتكاد تنفر من بين عينين عسليتين وتنتصب بيني وبينها، حواجز لما أريد فعله وما تريد، فلم تستطع كسر هذا الحاجز الذي يبدو أنها تعول عليه كثير، وبين عجزي وحساسيتي لها وعليها خوفا من فجيعة، ربما لا تحتملها كما فعلت البطلة صفر، وتركت لها الباب مشرعا تدخل وتخرج كيفما تريد، وظلت تؤدي بصبر لا تحسد عليه، دون تدخل مني في دورها.. غادة كناسة ومن فصيلة الكناسين الأوائل، الشيء الذي لم أنتبه له، أنها تعرف أبا عن جد وكابرا عن كابر أصول المهنة، وقيل إن لجدها الأكبر نظريات ولوائح تفسيرية، تتولى التعريف بالمهنة وشروطها وضوابط ممارستها، وصارت لهم مطالبات وشكاوى لحصر المهنة في نسلهم، الشيء الأكيد لدي إذ صحوت. ووجدت غادة سبقتني إلى جواري في غرفتي، قبل أن أفيق حضرت وتأكدت أنها رأتني نمت وحدي أحلم، فأنجزت كثيراً من العمل في لحظة زيارتها الثالثة بصمت. وحالت حالتي وفقدي صوتي لكثير من حالات حوار، ربما تثري وتختصر أشياء لو لم تكن بدورها قليلة الكلام، ومزاجية تتحكم في حالتها واستقرار نفسيتها، فآثرت الصمت واستبعدت على الأقل الآن الكتابة، وسيلة تفاهم بيني وبينها، إذ مازال الوقت مبكراً جداً، وتركتها تتصرف وتفعل ما تريد على سجيتها، وبدون أن أحدد لها من طرفي أي مسؤولية أو طلب، كناسة محترمة كغادة تعرف ما تفعل، في عز انهماكها في تأدية دورها، لم تنس أن تسألني رأيي في الكتاب الأبيض، الذي كان بحوزتها في المرة الأولى، وكتبت عليه )الوعد( بان صوتي سيعود مجلجلا كما كان، وحينما لم أكن قد قرأته بالتمام وكونت لي رأيا حرا عنه، اكتشفت بالصدفة أن غادة تكتب قصصا للأطفال، وكان مجرد اكتشاف بمحض الصدفة، إذ لم أكن على دراية كافية بخطها وأسلوبها، لذا رفعت إبهامي لها دون حماس يذكر كما في المرة الأولى، وبي شغف الذهاب معا الى فضاء جدها الأعلى.. أسئلة كبيرة جد مهمة، تأخذ مساحة في الفضاء الذي بدأت غادة تشكله، وتنسج خيوطه بكل مهارة وثقة، وكسبت أوراقا مهمة تتوجها بطلة النص المنتظرة، مازالت عيني تركزان بثبات على أرنبة أنفها العظيم، دون أن أجرؤ على طرح سؤال واحد، ولو كتابيا.. أعرف أن لها حساباتها ولي حساباتي، شيء لم أجده بعد، حرقة تلك اللوعة الهائلة، فتاة ناعمة وحساسة وطرية وأليفة وربما مسالمة إلى حد، وبصمتي نجحت إلى حد في اخفاء بعض جنوني عنها، وعوضت ذلك بإعطائها مساحة كبيرة من الحرية، ونجحت بدورها في رسم ملامح الدور بعفويتها، وبحسابات الأصدقاء ربما تنجح وحتما تظل بعيدة جدا عن مواصفات بطلة الرواية المنتظرة. أشياء تؤديها تخرجني أحيانا من رائحتها، أكتشف بعد ثوان وجودها، فيتعلق الورد كعناقيد غضب في خديها، تصبح تينك الغمازتان اللذيذتان تفاحاً إيرانياً في غير زمانه وأوانه، وحينما خرجت بدون إذني في المرة الأخيرة، تاركة لي كتابها الذي لم يكن غير، كراس قصص أطفال صغير مزينة صفحاته بلوحات، انصرفت إلى قراءاته بكل لهفة وشوق، وصارت تطالعني تلك الحكايات والرسوم بابتسامة، وحينما لا تكتمل المتعة أزم شفتي المسربلة بالصمت، ينفرد في وجهي بعض تلك الرسومات ويزمجر في وجهي، الأرنب الصغير الذي كان أقرب تلك الكائنات والمخلوقات الى قلبي، لعب بأذنيه وهزهما لي بسخرية: أخانا خلي عندك دم، وارسى لك على بحر.. أوشكت أن أعصر عنق الأرنب الأبيض الصغير المشاكس، لكني خفت على كراس غادة، وعلى كل حيواناتها ورسوماتها الأخرى من المخلوقات والكائنات العجيبة، ووجدته يقبلني ويردد: توبة.. توبة سامحني.. قذفت الكتاب واعترتني حالة غضب، فليس من اللائق التصرف بهذه الطريقة، وليس من العدل ألا أعطي أنا الذي أرقني السهر، وأتعبني طول مسافة الدرب مساحة وفسحة من الأمل، لشخوص بطلة الرواية المنتظرة، ولو كانوا مجرد رسوم عفوية لتسلية الأطفال، وطوت الليلة رائحة أنوثتها الطاغية على كل ما سواها، لم يؤنسني صوت شاعري الذي غب في الحلم أيضاً، وأصبح واحدا من الشخوص الذين تحت تأثير حضور رائحتها، وقد حاول محادثتي، وحينما لم يستوعب صاح في مستنكرا: سيبك من الدلع؟ ومثله ظلي الذي صار يبارني في خوف، لا يخلو من دعابة مشاكسة، بسبب فقدي لصوتي، وفقدت متعة رؤية طيوري وأزهاري التي افتقدتني، صرت غارقا دون وعي مني في فضاء بطلة نص الرواية المنتظرة، التي لم تصبح بعد المتوجة، وصارت رسوماتها وحيواناتها وطيورها والكائنات العجيبة من اهتماماتي، وغاب أصدقائي الكناسين عني ومضت أيام، لم أشاهد أحدا منهم، كما أني لم أشاهد أحدا معي في الدار، منذ حلت في هذا الفضاء رائحة غادة. راق لي وقد استعدت كراسها الصغير بعدما قذفت به، وبدأت أكتب أسئلتي إلى جدها )الكناس( الأكبر أبو عبيد.. وجعلت القلم يسري على سطح الورق المصقول الناعم بسلاسة، يخط أسئلته التي تأتي من عفو الخاطر، ثم أخذت في التداعي بسخرية، إذ خضت في قضايا تخص مهنة أصدقائي الكناسين بحرية، متناسيا مقام الأب الأكبر للكناسين، والتضحيات التي قدمها لفئة الإخوة الكناسين، ومن قبلهم لكل فئات المجتمع المتحابة، إذ أثرت بدون قصد مني حسد المجتمع وعنصريته تجاههم، فقد مهدت لأسئلتي، برسالة صغيرة كتبت فيها ما لبثت أن مزقته، أحسب أنك في ذلك الزمن البعيد، ولم أدر من أي أرض أتيت إلى مدينتنا هذه، إنك كنت تدرك بتصميم ما وصلت إليه، أحوال أصدقائي الكناسين وأنت على رأسها، لست عليما بظرف ذلك الزمن البعيد، وصارت أصابع غادة تخرج لي من بين سطور الرسالة لتكتب.. وقرأت في أصابعها النحيلة الطويلة، سيرة جدها الأكبر أبو عبيد في عرض شيق، يسرد الأفعال والأعمال التي تبناها للتحبب في المهنة، وشجرة العائلة الكريمة لأسرة أصدقائي عائلة غادة الكناسين، وسيرة ورواية لهجرتهم الأولى التي أكسبتهم اللون الفستقي المحمس بالدم كما في وجه غادة، ولم أكن الى هذه اللحظة على يقين أني قد رأيت وجه أحد من عائلة أو أسرة بطلة النص المنتظرة غادة بنت.. أبو عبيد الكناس الذي مات من مئات السنين وظلت مهنة الكناسة منسوبة إليهم كابر عن كابر.. تطلعت في وجه غادة الذي لم يكن منذ عرفتها جادا كهذه اللحظة، وأيقنت أنها انسجمت في الدور، بل توجت نفسها دون الرجوع إليّ، وصار طموحها يهددني أنا الضائع في بلاد الله الواسعة، وتوقفت أستجمع اللحظة وعرفت أننا بدأنا إجازة، ومعنى هذا أن غادة ستلازمني في كل سكناي وحركاتي، وأصبحت واحدة من نساء فضاء غرفتي، لم أنتبه إلى أنها صارت واحدة من نساء البيت أم لا؟ تأكدت أنها تصلني بلا ضجيج وتؤدي دورها مثلي بصمت، ترتب الأوراق وتنظف غرفتي وتعيد لها نضارة وأناقة، تلغى الفوضى والعبث الذي يميز حياتي، صارت فراشة تسعى إلى الضوء أرقبها بصمتي، تكتفي بمتابعة دورها والتحليق الأليف في سماوات من الليونة والزهد والرضا، لغادة ولاشك خيال خصب، أدركت حاجتي لعالم الصمت الذي صار جزءاً لا يتجزأ من حالتي، وبقي الكتاب مفتوحا..