إنّ حيواتنا أقصر من أن تضيع هباءً دون عطاء، إذ يجب على المرء أن يؤمن وقبل كل شيء أن لا مردّ لبقاءٍ على حالٍ سوى الانكفاء، وأنّ بداية طريق الانحدار هي ذاتها بداية تسنّم القمّة، وأنّ سجل الحياة في ذاكرة أحدنا لأسرع من ومضة ضوء عابرة بين محطات نجاحٍ وإخفاق، وسواءً كان هذا أم ذاك فسيبقى أثر الاجتهاد باديًا على تلك المراحل وعلى تلك الوجوه وعلى تلك اللحظات وعلى تلك الأماكن، سيبقى الأثر الطيب لن يضمحل ولن تخبّئه طوارق السنين، سيبقى الأثر وسيقال: مرّ من هنا وقد كان، ثمّ ستُقلبُ دفّة الكتاب. وستتعاقب الليالي والنُّهُر، وستستمر عجلة الحياة، وستمضي كأن لم تكن أنت يومًا، ومع ذلك.. لن يخبو الأثر. سيبقى في صورة كلمة طيبة ظلّت عالقة في ذهن أحدهم، أو في هيئة إنجاز ٍترك نفعًا دائبًا بينهم، أو في صدق نوايا حسنة تشرّبتها قلوبهم ومعها انتشت أرواحهم، وسيبقى الأثر، ولكن أيّ أثر؟ ليس الرحيل أثرًا يُخيّل إليكَ أنّك تخفيه عن عدوك في معسكر حرب عند انسحابك من معركة، وليس أثرُ الرحيل محطةً لإعلان ما بقيتَ تُخفيه في دواخلك من ضغينة روح وسخيمة نفس، وليس أثرُ الرحيل أطلال عاشقٍ يدبُّ رسيسُ شوقه فيها بين فينة وأخرى صبابةً وعلقا، وليس مأتمًا فتظلَّ الدهرَ كلَّه تندب حالاً وتلطمُ خدًا وتشق جيبا، أو أن تُقوقع حياتك في إطار صورةٍ انهزاميّة كئيبةٍ ومشوّهة لا يسعك مغادرتَها. إنّ الرحيل ليس انكفاءً على الذات، ولا حبسًا لحياة المرء في لحظات حمله لكوبه وطائش أوراقه وصورة تذكاريّة كان قد وضعها على جانب مكتبه في صندوق ورقي. فالحياة يا صاحبي أوسع من أن تُبديكَ في صورة شرنقة أو أن تُدلي حولك -لا سمح الله- حبل مشنقة، لأنّ الحياة ببساطة هي الحياة، ستستمر عقارب الساعة تمضي قُدمًا ولن تتوقف عند لحظتك الغامرة الحابسة، سيطلع النهار وسيحلّ الليل من بعده، وستستمر دورة الحياة، وسيمارس مَن حولَك حياتهم الاعتيادية، وسينجز المنجزون، وسيعمل العاملون.. إنّ الرحيل هو الخروج الواعي الذكي عندما يتعذّر البقاء، وعندما تُبذَل كلّ الحلول الممكنة للحيلولة دونه. إنّ للرحيل صُورًا شتّى، فثمّة رحيل عن علاقة سامّة لإنسان يتغذى على ذاتك، وثمّة رحيل عن مكان لم تعد تنتمي إليه، وثمّة رحيل عن فكرة ظلّت عالقة في رأسك ولم تعد مقتنعًا بها، وثمّة رحيل عن سلوكٍ لم يعد يوائمك، وثمّة رحيل عن مفاهيم تجاوزها نضجك، وثمّة رحيل عن مشاعر أصبحت تشوّه جمال حياتك. وثمّة وثمّة ... إنّ الحصيف من جعل من لحظة الرحيل نقطة انطلاق جديد لحياة تشرئبُّ فيها النفوس نحو مزيدٍ من الجدّ والبذل، إنّ الحصيفَ من غلّف هذا الرحيل وأظهره من جديد في صورة مُنتَجِ خبرةٍ حياتيّة أو مهنيّة، إنّ الحصيف من جعل من هذا الرحيل عتادًا وعدّة نحو بداية خلاّقة واعدة، إنّ الحصيف من جعل من الرحيل فكرةً محفّزةً وفرصة سانحة لاستكشاف عوالم أخرى، عوالم ما بعد الكهوف كما يراها أفلاطون، حيث الحقيقة المتوارية والحرّية المتعالية والبحث عن معنى جديد للحياة تحدّيًا ومثابرةً وباعثًا على نمو الروح. يا صاحبي ولولا الرحيل ما كنّا لنعيد ترتيب الأوراق والمسافات والسطور، وما كان لهذه الحياة أن تبدو متجدّدة مختلفة، وما كان للمسرّات أن تتزيَّا من جديد في أجمل لباس وأبهى حُلّة. يا صاحبي وقد يكون الرحيلُ قسيمًا للنجاح أحيانًا، وليس النجاح مدينةً نصل إليها فينتهي كلّ شيء، بل إنّ النجاح محطاتٌ نتوقّف عندها لنتزود بالوقود ثم نرحل ونواصل المسير.. إنّ الحصيف يا صاحبي لن يجعل قيمته في لحظات فائتة أو أماكن زائلة أو مشاعر زائفة، ولن يجعلها بأيدي الآخرين، إن رضوا عنه منحوه هذه القيمة، وإن سخطوا عليه سلبوها منه. بل إنّه من سيجعلها في أعماق ذاته يأخذها معه أينما كان وأينما بان، في حرزٍ محجور وفي حصنٍ محظور، لا تطالها يد عابثٍ ولا تتبدل بحادث. فلا شيء حينها يضاهي الاستحقاق الداخلي. فحين تزمع الرحيل فارحل دون أن تلتفت خلفك لا عائد ولا عائذ. واعتزل ما يؤذيك. وأخيرًا .. رفقًا بنفسكَ الشفيفة، فلا صلاح للمرء في هذه الحياة الكابدة إلا بتصالحه مع ربّه ثمّ ذاته أولاً، ثمّ بتصالحه مع الناس والمجتمع والحياة من حوله، لذا فلنصنع من هذا الضيف الثقيل -أعني الرحيل- رحيلاً لكلّ ما يكدّر صفو نفوسنا ويشوبُ نقاء وصفاء سرائرنا، فما هذا الرحيل الطارئ سوى محطة عابرة في طريقنا نحو رحيلٍ أكبر.. سنغيبُ حينها وسيبقى الأثر والحساب، ولا شيء غير الأثر والحساب، قال تعالى: (ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره). ويقول سبحانه: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّ سعيه سوف يُرى، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى).