الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، والقائل أيضاً: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون}وبعد.. نحاول هنا الإجابة عن السؤال: هل التربية مسؤولية الأسرة وحدها في الوقت الحاضر؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من توضيح مسؤولية الأسرة في الزمنين الماضي والحاضر؛ حيث أوضحت الدراسات المختلفة وخاصة التربوية والنفسية منها أهمية المنزل ودوره الكبير في تكوين شخصية الطفل وفي تأثيره في سلوكه في الحياة منذ الولادة حتى الوفاة؛ ذلك أن الطفل أول ما يرى من الوجود منزله وذووه، فترتسم في ذهنه أول صورة للحياة مما يراه من أحوال والديه وأسرته عامة وطرق معيشتهم، فتشكل نفسه المرنة القابلة لكل شيء المنفعلة بكل أثر بشكل هذه البيئة الأولى. يقول الإمام الغزالي: الطفل أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عوّد على الخير وعلّم ذلك نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكلّ معلم له ومؤدب، وإن عوّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ما من مولود إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وإلى هذا أشار الشاعر بقوله: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه ويقول أيضاً: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق الأم روض إن تعهده الحيا بالريَّ أورق أيما إيراق الأم أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت وآثرهم مدى الآفاق وإذا كان للمنزل كل هذا الأثر في حياة الطفل، وجب تحقيقاً للغاية السابقة أن يحاط بكل ما يغرس في نفسه روح الدين والفضيلة. أخي القارئ الكريم الولي طبعاً.. إذا ألقيت مسؤولية تربية الطفل ومتابعته في كل شيء في مراتع وخيمة فإنه يضاعف لك العذاب ضعفين تعذب على تشويه تلك الجوهرة المكرمة وتحوز من تلك الجناية العامة نصيباً مفروضاً؛ لهذا نجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته)، حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يضع قاعدة أساسية مفادها أن الابن يشبّ على دين والديه، وهما المؤثران القويان فيه. ويوضح ابن القيم - رحمه الله - أن من أهمل تعليم ولده ما ينفعه في كل شيء وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، وما ينفعهم وما يضرهم في هذه الحياة، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً؛ وعليه فإن المنزل قلعة من قلاع هذه العقيدة ولا بد من أن تكون قلعة متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، وكل فرد منها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإن تكن كذلك سهل اقتحام العسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق ولا يستعصي على مهاجم. وواجب المؤمن أن يؤمّن هذه القلعة من داخلها، وأن يسد الثغرات فيها، قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً، ولا بد من الأم المسلمة فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة، فلا بد من أم وأب ليقوما كذلك على الأبناء، فعبثاً يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي، بمجموعة من الرجال، فلا بد من النساء في هذا المجتمع؛ فهنَّ الحارسات على النشء، وهن بذور المستقبل وثماره. إن أول الجهد الذي ينبغي أن يوجه إلى المنزل يوجه إلى الأب ثم إلى الزوجة وبعدهما الأولاد وإلى الأهل عامة. ويجب الاهتمام البالغ بتكوين الأم المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة، وإلا سيتأخر بناء المجتمع الإسلامي، وسيظل البناء متخاذلاً كثير الثغرات. إن من الشروط الواجب توافرها في الأسرة المسلمة هو الأساس السليم لأنه كلما كان الأساس سليماً وقوياً وراسخاً كان البناء قوياً لا اعوجاج فيه؛ ذلك لأن هذه الأسرة المكونة من الأب والأم في أول الأمر ستنتقل جميع أفكارها وآرائها بل وطرق معاملتها وتربيتها إلى أولادها الذين سيكونون نسخة أصلية من والديهما؛ لذا أوصى الدين الإسلامي بالحرص الشديد في عملية اختيار الزوج والزوجة لأنهما العملية الرئيسية في تأسيس الأسرة وإخصابها؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، وقال - ژ -: (تنكح المرأة لأربع؛ لمالها وجمالها وحسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك). غضب معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يوماً على ابنه يزيد فأرسل إلى الأحنف بن قيس يسأل عن رأيه في البنين فقال: (هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودّهم، ويحبونك جهدهم، ولا تك ثقيلاً عليهم، فيملُّوا حياتك ويتمنوا وفاتك). هذه عظة الأحنف بن قيس لمعاوية - رضي الله عنه - لملاحظة الأبناء وحسن معاملتهم، والرفق بهم، واتباع الطريق الأقوم، في تربيتهم وتوجيههم؛ لذا كان دور الأبوين عظيما وكبيرا في كل شيء، فإن ضرورة تعليمهم وتنبيههم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم بصفة مستمرة مطلب تربوي مهم ومطابق لما نادت به الشريعة الإسلامية من أهمية الأسرة المسلمة في التربية، وأن لها الدور الكبير في ذلك؛ فمتى أخرجنا طفلاً متربياً تربية صالحة كان عزمه قوياً، وكلما كانت شخصيته ونفسيته كذلك استمر في حياته، وشق طريقه دونما تعثر أو توقف وانعكس كل ذلك عليه وعلى تربية أولاده مستقبلاً، وهكذا يكون اختيار الأبوين المسلمين الصالحين؛ حتى نحصل على كل ذلك، ولنخرج لهذا المجتمع - بمشيئة الله تعالى - جيلاً قوياً متأدباً بالآداب الإسلامية الحسنة، مطيعاً لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولولاة أمره، منفذاً التعليمات التي ينادي بها ولاة الأمر؛ من خلال التقيد بالآداب العامة، سواء كانت أنظمة للمرور أو محافظة على الممتلكات العامة، أو نظافة في الطرقات، أو عدم إزعاج الآخرين وأذيتهم. من هنا وبعد ذكر ما تقدم أجدني مضطراً للتأكيد على أهمية دور الأسرة في التربية وأنها المسؤولة الأولى عن تربية هذا النشء؛ ذلك أنه ليس أشق من المراحل الأولى في التأديب والتهذيب؛ فإذا عبرها الطفل في رعاية صحية جنبناه كثيراً من الويلات التي يشقى ونشقى بها معه في صباه، وفي مراهقته، وشبابه وفي مراحل حياته؛ لذا يجب على الوالدين العناية بتربية أولادهما تربية حقيقية نابعة من تعاليم الدين الإسلامي الذي يحرص على أن يكون الوالدان قدوة عظيمة لأبنائهما موجهين ومرشدين؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه. لن أطيل في هذا الموضوع فلو أردت الإسهاب بالكتابة عنه لكلت يداي ولاحتجت إلى عدة كتب وليس كتابا واحدا، ومساحة الصفحة معلومة لدى القراء، لكنني أحببت التذكير بأهمية دور الأسرة في التربية بمناسبة الإجازة الصيفية التي - للأسف الشديد - تضيع فيها مسؤولية الأسرة كثيراً؛ نظراً لارتباك برنامج الأسرة من اجتماعات وسفر وحضور مناسبات بل ونوم وخلاف ذلك ثم السهر الليلي الطويل سواء في المنزل أو في الاستراحات وهي الطامة الكبرى أو مع الجيران أو الأصدقاء. إن على الأسرة مسؤولية عظيمة وعليها حساب كبير من الله - سبحانه وتعالى - وعليه فإن المسؤولية عظيمة والذنب كبير والاستجواب طويل، وستجد كل نفس ما عملت؛ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وخلاصة القول، وحتى أكون منصفاً وموضوعياً، فإن الأسرة لا تقع عليها المسؤولية وحدها في التربية في زمننا الحاضر؛ فالكل مسؤول أمام الله - سبحانه وتعالى - فالمدرسة عليها مسؤولية والمجتمع عليه مسؤولية والإعلام عليه المسؤولية الكبرى أيضاً، ثم تساهل بعض الجهات الحكومية التي تسمح لأصحاب المحلات بالعمل حتى آخر الليل وبيع بعض الأشياء الضارة كالدخان مثلاً دونما رقابة أو مساءلة، وكلّ سيتحمل جزءاً من هذا الإثم الذي تتسم به تربية هذا النشء، سواء أكانت سلبية أم إيجابية.. جعلنا الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله الهادي إلى سواء السبيل.