ترصد الدنماركية كيرستن توروب في روايتها «بونساي» («ترجمة دُنى غالي، المدى») التحوّلات التي تجتاح الشخصيّات إثر الانتقال من بيئة الى أخرى، وتأثير البيئة الجديدة ودورها في الدفع نحو هذه الوجهة أو تلك، والخروج من الحيّز المكبّل لحرّية التنقّل والعيش والتفكير. تتمحور الرواية حول شخصيتي ستيفان ونينا، إذ يلتقيان في كوبنهاغن ويقرّران الزواج. ويكون قرار الزواج من جانب ستيفان انطلاقاً من الرغبة في الحصول على شقّة لأنّه كان يحقّ للمتزوّجين فقط ذلك، وبعيداً عن الحياة الزوجيّة الجديدة التي وجد نفسه في عالمها، يمارس ستيفان طقوسه الخاصّة وحياة جنسيّة مختلفة، أي يعيش منقسماً بين جانبين وحياتين، ولا يلبث أن يتخلّى عن زوجته نينا ويهجر فنّه ليعيش جوّاً من التصعلك والتسكّع والضياع. تعتمد توروب طريقة تعدّد الأصوات في روايتها، وكلّ صوت ينطلق بالتعبير عن هواجسه وتخوّفاته ويكشف النقاب عن حياته السرّيّة أيضاً، يكشف أوراقه أمام الآخر، يكتب له بنوع من التعرية الذاتيّة، يبوح بما تكتّم عليه سنوات، يكون دافعه في ذلك الوفاء لنفسه وطريقة عيشه واختياره، كما يكون التخفّف من أعباء الأسرار دافعاً إضافيّاً وحافزاً للبوح والمكاشفة. يبدأ كلّ راوٍ بتوجيه رسالته إلى الآخرين، يتحدّث عن نفسه وعلاقاته وماضيه وواقعه، يحاول أن يكون جريئاً في نقده لذاته، يفصح عن أفكاره وتطلّعاته من دون توجّس أو تحسّب، وكأنّه يكون أمام محاكمة ذاتيّة قبل مساءلة من الآخرين، يسترسل في الإفصاح عن ممارساته ونزواته، من دون أن يحاول إخفاء الحقائق أو التعتيم عليها، اقتناعاً بأنّ الزمن المتبقّي لا يحتمل التورية والمداورة والإخفاء. نينا التي كانت مثار الانتقاد الدائم في قريتها الصغيرة، وكانت نموذج الفتاة المراهقة الجريئة، تنتقل إلى المدينة لتحظى بحرّيّتها بعيداً من قيود القرية وذهنيّة أبنائها وتقوّلاتهم الدائمة التي كانت تنال منها وتؤذي مشاعرها ومشاعر أبويها. تتعرّف إلى ستيفان، تجد فيه الفنّان الذي ترتاح اليه، تعجب بأفكاره وانفتاحه، تغريها طريقة عيشه وثقافته، تمكث معه في شقّته أيّاماً، تطمئنّ اليه، وترضى تالياً الاقتران به. يتوجّه كلّ من ستيفان ونينا وجهةً مختلفة، كلّ واحد منهما يبحث عن ذاته في عالم مختلف عن الآخر، تفترق بهما الطرقات، ولا تفلح الابنة الوحيدة في الجمع بينهما لأنّ مسارهما الحياتيّ يختلف كثيراً فضلاً عن اهتماماتهما وأعمالهما. فستيفان يغدو مخرجاً مسرحيّاً وممثّلاً أيضاً، يكتفي بعلاقات غير سويّة مع أصدقائه، في حين أنّ نينا تسعى إلى تأكيد ذاتها في عالم الفنّ بطريقة مختلفة، وتكون لكلّ منهما رؤيته المختلفة في هذا السياق أيضاً. يعترف ستيفان بأنّه عاش حياة مزدوجة غريبة، وأنّه عانى جرّاء ذلك، وأنّ حياته كالكتاب الذي يختزن الكثير من الأشياء، وتراه يتحدّث بفلسفته عن الفنّ والحياة، وإخلاصه لفنّه وحياته في مواجهة الواقع الذي يكاد يجرّده من كلّ شيء في سبيل إرضاء الآخرين. يعترف بأنّ مسرح الحياة لا يتّسع للتحايل على الذات، وأنّ الدور الأصدق الذي يجب أن يؤدّيه هو دور التصالح مع النفس بعيداً من الكبت والقهر والمداهنة. يكون اعتراف الشخصيّات نوعاً من التدمير الذاتيّ الذي تلجأ إليه في ردّها على العسف الذي تقابل به في واقع الحياة، ويتنامى الاعتراف على هامش الفنّ، ولا سيّما أنّ ستيفان ونينا يغرقان في بحر الفنّ، كلّ واحد منهما على طريقته، يجدان وحش التدمير يتغوّل ويقتفي أثرهما في كلّ زاوية يقصدانها. والاعتراف المتأخّر لا يسعف الشخصيّات في الاستشفاء أو المعالجة، لكنّه يكون بمثابة وصايا للآخرين كي يعيشوا حياتهم بعيداً من الإرضاء أو النفاق، حتّى وإن ألزمهم ذلك مواجهة سابقة لأوانها كما حصل مع نينا في قريتها الصغيرة التي اضطرّتها للرحيل كي تنعم بشيء من الحرّية المنشودة. الابنة إلين التي تكبر في ظلّ جوّ أسريّ مفكّك، تجد في تلبية وصايا أبويها بعضاً من العزاء، لكنّها لا تستطيع الالتزام أو الإيفاء بها، كحرق الدفاتر والكتب مثلاً، ذلك أنّ حرقها يعني بمعنى ما حرقاً لتاريخ الأب وفنونه ورؤاه وتطلّعاته وآماله، وتكون في طريقة الحرق نفسها جوانب من التقريع وجلد الذات من خلال مرأى النيران وهي تلتهم جلود الدفاتر السميكة وتقضي على ما فيها من صور وأفكار. تركّز توروب على فكرة المساعدة على الانتحار، أو ما يسمّى بالموت الرحيم الذي هو نوع من المشاركة في الانتحار وقتل النفس، تكون حالة ستيفان محور التركيز والمناقشة، ولا سيّما أنّه يختار هذه الطريقة للرحيل، إذ يكون مصاباً بالإيدز، ويطلب من الآخرين مساعدته على الموت السريع من دون ألم أو ما يسمّى بالقتل الرحيم، وتثير المقاربة حفيظة البعض من مناهضي الفكرة، وتستذكر بعضاً من النقاشات والسجالات الدائرة حولها، سواء من باب التحريم أو التجريم، وكيف أنّ اليأس يودي بالمرء إلى الهلاك قبل أيّ مرض آخر. يكون في استعراض توروب جانب من التحذير من القادم، ولا سيّما حين تفقد الإنسانيّة معناها السامي، ويتعمّم نوع من القتل الرحيم الذي لا يبقي قدسيّة لحياة آدميّة، ويفتك بالمرضى الذين قد تعجزهم وسائل المعالجة وسبل التداوي، مع ما يعنيه من قطع للأمل وتسييد لليأس وارتكان كابوسيّ لجحيمه. ويبلغ التحذير أوجه في صرخة أحدهم حين يقول بطريقة استفزازيّة للآخرين إنّ لا مقدّسات بعد الآن. كلّ شيء في تغيّر مستمرّ. الالتزامات الأخلاقية القديمة في حالة تحوّل. الحقائق المطلقة أمر ولّى وفات. في المستقبل سيطالب جميع الناس بحقّهم في تصميم حياتهم. الأطبّاء سيصيرون نوعاً من مقاولين. وتكون هذه الحالة خراباً أكيداً ودماراً معمّماً. تختار الروائيّة طريقة التأريخ لكتابة اليوميات، تثبت في يوميات ستيفان اليوم والشهر والسنة، وتبدأ في سنة 1964 وفي عدد من الشهور، ثمّ تكون التواريخ الدالّة على يوميّات نينا، وبعدها يوميّات الابنة، وتكتفي أحياناً بالإشارة إلى اليوم والشهر فقط من دون تحديد السنة. ويكون في استعانتها بالتوثيق التاريخيّ شكل من أشكال التأريخ للمرحلة وتفاصيل اليوميّات الشخصيّة كعيّنات من الحياة المعيشة على هامش الأحداث العاصفة الحاصلة.