لنبدأ من محاربة الضجيج بالضجيج، والفكرة أوقد شرارتها كتاب «عقول المستقبل» لريتشارد واطسون (Future Minds) الذي تحدث فيه عن أن بعضنا قد يضع السماعة في أذنيه ليستمع الضجيج الذي يختاره الإنسان بنفسه، وليس الضجيج الذي تفرضه عليه طبيعة الحياة من أصوات في العصر الرقمي. فعندما نضع السماعات فنحن نُعمل خياراتنا فيما نسمعه ولا نستسلم لما تفرضه علينا الحياة من حولنا من ضجيج مختلف ومتنوع المصادر، وكأن الكاتب يرى أن هذه حرب دفاعية سلاحها مفردات التقنية الحديثة وأحد منتجاتها هو ما نستخدمه لصد هذه الحرب لنخرج من دائرة الإجبار إلى دائرة الاختيار من خلال المصدر نفسه. أما العزلة التي نود الحديث عنها فهي العزلة الاختيارية. فمن يختار عدم الحضور الدائم مقابل الحضور الدائم أعمل نفس المبدأ وإذا كان هناك من يرى أن عدم حضورك الدائم يعني العزلة أو اختيار الوحدة أو الانطوائية فهو غير محق حسب رأيي ففي ظل هذا الزخم الذي تضخه الحياة من حولنا فإن الوجود الدائم يكاد يكون أكبر مُتلف للإنجاز والجلوس مع النفس والقراءة والكتابة وأداء الالتزامات الخاصة بأسرة الإنسان ونفسه وما يحتاجه بين وقت ووقت من الجلوس مع النفس والاسترخاء الممكن والابتعاد عن الضجيج. إنه احتياج يعيد للإنسان توازنه ويجعله يفكر بعيداً عن المؤثرات والمشتتات. نحن نحتاج فعلاً أن نقدر احتياجاتنا من الجلوس بعيداً عن الصخب ونحتاج أن نقدر ونتفهم احتياج غيرنا إلى مساحة خاصة من الوقت يخلو فيها مع نفسه ومع اهتماماته واحتياج أسرته الصغيرة والممتدة وأن لا نلح عليه بالوجود الدائم ما دمنا قريبين منه روحياً وعلى اطلاع أن غيابه في حدود هذه المساحة وهذا الحيز واختيار ضجيج العائلة بديلاً عن ضجيج الحياة قيام بواجب مُلزم تجاه هذا الكيان وهذه اللبنة الأولى في حياة المجتمع ووقود يعود بعده الإنسان إلى حالة من التوازن والاتزان بين واجباته الأسرية والتزاماته المجتمعية والثقافية. وختاماً، فإننا نحتاج أن نتذكر ونستحضر أن رسولنا عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام كان يحلو له أن يخلو بنفسه بين وقت وآخر، وأنه في بداية حياته كان يلوذ بصمت ذلك الغار.