حِسُّه في الدُّنيا كان يملأ حياتنا بركَةً، ونُفوسَنا رضًا، وقلوبَنا سعادةً، ذاك والدي -رحمه الله وغفر له-، كُنَّا نستظِلُّ دومًا بدَوْحَتهِ الظليلة، ونَستنيرُ برؤاه الصادقة، وحِكمته البالغة. يعجزُ المرءُ عن التعبير صِدق محبّتِه، وجميل خَصالِه، ونصاعة سيرته، وسخاء يدِه، ولستُ وحدي من يعجز عنِ التعبير عن مكنونه، فبقدر طُغيان المحبّة ينطفئُ اللسان، ويعجز القلم والبنان، ومحبّة والدي لا يحملها له بنوه وحدهم، بل يتسع مداها، فتراها في عُيون عارفيه، وألسنة محبِّيه، في الأهل والجيرانِ، وأبناء الحيّ والعشيرة، وجميع من ربطتهم به صلة. رحَلَ والدي، وتركَ لنا إرثًا عظيمًا من السمعة الطِّيبة، ومخزونًا وافرًا من العطاء والمحبَّة، فلم يكن -رحمه الله- يتوانى عن السعي في قضاء حوائج الناس، ولم يكن يتخلَّف عن مشاركتهم في مسرّاتهم، ومواساتهم في المآسي والأحزان، كانَ لهم محبًا، وكانوا يبادلونَه الحُبّ العظيم. ومحبَّةُ أبي للخَلْقِ نابعة من محبّته للخالق، فَصِلَتُه ببيوت الله عامرة؛ إعمارًا للمساجد والجوامع، وخدمة لها، وحثًّا للنّاس على ارتيادها، وتعزيزًا للصلة الروحية مع ربِّهم، وثوقًا بموعوده وحُسن عطائه، ورضا بقضائه. وهذا الرضَّا والصبر الجميل تمثَّلَهُ والدنا الكريم في مرحلة الابتلاء والمرض التي لازمتْهُ تسع سنوات، فما ضجِرَ وما سخِط، بل صَبر ورَضِيَ واحتَسَب؛ لينال الأجْرَ والثواب. ومِمَّا خفَّفَ عليه ابتلاء المَرَض وقوف الوالدة الكريمة معه طوال محنة مرضه، فكانتْ سندًا عظيمًا للوالد، صبرتْ واحتَسَبتْ، وكانتْ نعم الزوجة الوفيَّة، حتَّى ضُرِبَ بوفائها المَثَل، فيالها مِنْ سيِّدَةٍ عظيمةٍ، لا زلنا نستمِدُّ منها الأمانَ واليقين، ونتعلَّم منها حُسن العِشرة، وصِدق المودّة، فنسأل الله لها حُسن الأجْر والمثوبة، وأن يمتّعَنا بطيب مقامها وحُسن رعايتها، وجميل عطائها. لقد كان والدي -رحمه الله- حريصًا على أمور دينه وعبادته، محافظًا على صلاته، باذلاً الخير للناس؛ كُلّ النّاس، متفانيًا في خدمة أهله وعشيرته، وكلّ قاصِدٍ، متعلِّقًا بالمساجد، وبقي على هذه الحال، حتّى وهَنَتْ ذاكرتُه، وما وَهَنَ الخير البازغُ في قلبه، وما خفَتَتْ محبّتُه للناس، ولا محبَّة الناسِ له. فعليك يا والدي رحماتُ الله تعالى ورضوانه، ونسأله أن يُنعمَ عليكَ بسابغ عفوه مغفرته، ولتهنأْ روحُك في عليِّين، وما بنوك الذين غرستَ فيهم الخير والعطاء إلا امتداد لمسيرتكم العطرة، فالابنُ كَسْبُ أبيه، ونحنُ على العهدِ دومًا نحيا بذكركَ الحَسَن، فالذِّكرُ للإنسان عُمْرٌ ثانِ. وإنَّ مشاعر الفقد لتزداد يومًا بعد يومٍ، ونبقى في حاجة دائمةٍ لنستمع منك إلى التوجيه والنصيحة، ولكننا بقضاء الله راضين، فإليه المرجِعُ والمآب، وإنْ كُنّا لا نستطيع أن نستدفع مشاعر الفقد والألَم، وكما يقول الشاعر: ماتَ الذين نحبّهم ** فعليكَ يا دُنيا السلام إنِّي رضيع خصالهم ** والطِّفْلُ يؤلمُه الفِطام فرحمات ربِّي على أبي والسلام، وحفظَ الله الوالدة وأثابها، وغفَرَ لوالدي وجزاه إحسانًا كِفاء ما قدَّمَ ورعى. * الملحق الثقافي السعودي السابق بسفارة خادم الحرمين الشريفين بجمهورية باكستان الإسلامية