من الطبيعي في الحياة أن نختلف مع من حولنا، نتقاطع معهم في الآراء والسلوك، والأكيد هو ضرورة قبول رأي الآخر والتسليم به وعدم مهاجمته على رأيه أو انتقاده، دعك ممن يهاجمك بمسمى الخطأ، ويتقاطع معك بكل عنف وقسوة، هذا النوع صعب التعامل معه وتجاهله إحدى الراحتين، إلا أن هناك مصطلحا لا أعلم هل سبقني أحد إليه أم لا وهو (جرائم الجهلة) لأن ثرثرة الجاهل بكل شيء هي نوع من أنواع السلطة على الآخر، قد يكون انتهازي يفكر بمصالحه الشخصية دون وعي أو معلومة حقيقية يستند عليها، هنا سوف يرتكب الكثير من الجرائم في حق الآخر ومجتمعه ونفسه. لذلك حاجتنا لوعي حقيقي يقف بعيدا في الحياد يرصد ويفكر ويحلل الواقع كما هو ويفكر بشمولية ويطرح علينا آراءه دون فرض ويدع لنا حرية الاختيار، هذا ما نحتاجه، أذكر قصّه ل(زوربا) مع الكرز، كان يحبّ الكرز كثيرا وقرّر أن يُشفى من حبّه إيّاه بأن يأكل منه كثيراً.. كثيراً حتّى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عاديّة. هي طريقة طريفة في الشفاء ممّا استعبده، ونحن نحتاج أن نكون مثل (زوربا) بكل ما به من حدية وتطرف وحزن وفلسفة وانتصار وهزائم ولكنه قوي وعاش حياته بلذة وذكاء ووعي وتقبل لكل ما حوله من اختلافات. فالمرونة مع الأشياء والآراء ذكاء اجتماعي يجعلك أكثر تقبلا لكل ما حولك، وفي مشهد آخر يقف بودلير أمام مسرحية حياته البائسة كما يصفها، فلا يستطيع أن يلاحظ كل «هؤلاء الناس الخسيسين» الذين يثيرون في نفسه التقزز والقرف، لأن الكائن البشري خبيث في نظره، وأناني، وقاصر في روحه وعقله، ولا يقدر على الإحساس بالجميل والإعجاب بالخير (من كتاب La Lettre volée ) وهذا نوع آخر من الحدية والتشاؤمية وعدم الثقة بالآخرين يصنع شخصية صعبة وحادة ولا يمكن أن يندمج مع المجتمع إلا بصعوبة بالغة، ولو نظرنا بعين بودلير لما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي الآن يلمس عمق ما قاله عن الإنسان، وكثرة الجدال والانتقاد لكل شيء منزلق خطير يفقدنا الثقة بكل ما حولنا، فنحن نعيش الآن مجتمع ما بعد الحداثة Postmodern society الذي يلزم الأفراد في المجتمع أن يتحملوا مسؤولياتهم الأخلاقية، الأدبية، والاجتماعية، من أجل التصدي لأي مشاكل يواجهونها، في حياتهم اقتصادياً، واجتماعياً، ولكن هذا لا يأتي بمعزل عن المشاركة الاجتماعية بين الأفراد، والتناغم الفكري والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي. والخوض في شؤون اقتصادية أو سياسية أو علمية، أو اجتماعية بدون مرجعية عميقة يسبب تضليل للمجتمع ويخلق أزمة عدم ثقة في كل ما يكتب أو يقال.