نبدأ كتابة نصوصنا الروائية ونحن مثقلون بثقافة المعلومة حول الشخوص الروائية وطريقة بنائها، والزمن الروائي وآلية إدارته، والأحداث ومنطقية وقوعها، والخيط السردي الذي ننظم فيه هذا العقد من الحكايات وزمانها ومكانها وتتابع أحداثها، ولكن ما أن نبدأ في كتابة حكايتنا -سواء وضعنا لها هيكلة وخطة عمل أم لم نضع- حتى نجد أننا نُلقي بهذه الأحمال خلف أقلامنا، ونبدأ بداية ربما لم تكن تخطر لنا على بال! لماذا وكيف؟! ببساطة لأننا انتقلنا من زمن إلى زمن ومن حالة شعورية إلى حالة أخرى، ومن وجدانية إلى وجدانية، ومن كيمياء وفيزياء نفسية واجتماعية إلى أخرى. الرواية ليست بحث علمي ولا دراسة منهجية؛ الرواية حياة تختارنا لنصنع لها كل ما يجعل منها حياة موازية للحياة من حولنا أو كما صورها لنا فلم أو قصص سمعناها أو عشناها في مرحلة من مراحلنا العمرية، وزمان موازي للأزمنة، ومكان نرسم تضاريسه، وطقس ينبعث من وجداننا ومشاعرنا مع وقت البداية، وتشكل ساعة الصفر لانطلاق الكتابة. قد نجبر أنفسنا على كتابة بحث أو رسالة ولكن الرواية لا تأتي وفق هوانا وإنما وفق هوى اللحظة الشعورية التي تنغمس فيها بدايات القص، فتملأ خيالنا بحبر الفكرة، لتسير أقلامنا على الورق أو أناملنا على حروف لوحة المفاتيح. من أجل ما ورد أعلاه فإن أول شيء يجب أن لا نقلق عندما نضعه على «وضعية الصامت» هو الناقد الخارجي والناقد الذي بدواخلنا ما عدا ما يمس ديننا وقيمنا ووطننا، وما عدا ذلك نجعل لتدفق مشاعرنا وتوالى صور الخيال في التوارد أمامنا وحضور لغتنا غير المتكلفة متسعا ومساحة، ونجعل مشاعرنا تتداعى مع كل حالة إنسانية وتجليات إلهامية، فإذا لم نندمج مع كل شعور نبثه ومع كل موقف نجسده ومع كل حوار نديره كان هذا دليلا على أننا لم ولن نكتب رواية، وإنما قصة فارغة من الحياة مفرغة من الشعور والمشاعر والاندماج الملازم لصناعة رواية حية تتحرك فيها الحياة أمام القارىء المنتظر. الرواية في زخم كتابتها يُفضل عدم توقف نبض تدفقها إلا بعد إتمام تشكلها وتأثيث أسطرها كما لو أنها ستبعث على أرض الواقع سواء أكانت رواية واقعية أم خيالية. ومن المزعج أن الكثير ممن عرفتهم بدأ في كتابة عمله الروائي ولكنه توقف ليس لعدم رغبة أو عجز، وإنما خوف من ذلك الناقد المٌنتظر الذي يتوقع أن يُحرجه أمام نفسه وأمام مجتمع من القراء، وهنا تكمن المشكلة؛ علاقة الناقد بالمبدع والإبداع! علاقة تحتاج إلى أن تكون أكثر وضوحا، ولكن الحقيقة التي لا مواربة فيها أن المادة الأدبية هي الأساس فبدونها لن يكون هناك ناقد، ولذلك أكتب فالكتابة لن تضر الناقد بل تنفعه وتُعدد خياراته، وهي كذلك تنفع كاتبها ما دامت لا تتطاول ولا تتعدى على مجتمع أو قيم أو وطن فالكتابة علاج واحتياج للكثير منا.