الفضائلُ والأعمال الصالحة أصناف متفاوتة، فمنها ما هو فاضل في نفسه، لكن غيره أفضل منه، كما أن لكل فضيلة ولعمل صالح درجاتٍ متباينةً في الأهمية، وهي بجميع أقسامها ودرجاتها مشتركةٌ في أصل الفضلِ، والتفاوتُ لا يُلغي هذا الاشتراك، وللتعاطي مع الطاعة والفضيلة طرفان وواسطة، أما الطرفان فأعلاهما بذل الجهد في بلوغ الدرجات العُليا من العمل الصالح والخلق الرفيع، والعصمة التي تقتضي بلوغ الغاية في ذلك مخصوصة بالأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، وخواصُّ المؤمنين ونبلاء الفضلاء مقتدون بهم اقتداء كبيراً، وتتلاشى أخطاؤهم في بحار حسناتهم، وأدنى الطرفين الإخلاد إلى الأرض، والإعراض عن الحق، حتى يصير المرء صِفْرَ اليدين من التشبُّثِ بشيء من الفضائل وأداء الأعمال الصالحة، وبين هذين الطرفين واسطة، وأصحاب هذه الواسطة يدورون في مجال فسيح شاسع، والإنصاف أن يُراعى هذا التفاوت، فلا يبخس أحد حقَّه؛ ولا ينظر إليه على أن درجته صفرٌ؛ لأنه لم يكمل المئة أو لم يلامس إكمالها، ومن التعسف أن يتجاهل البون بين الطرفين، ولي مع ما بين الصفر والمئة وقفات: الأولى: كون درجات الفضل متفاوتة تفاوتاً كبيراً أمرٌ متقرر شرعاً، وقد قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)، فهؤلاء صفوة، لكن لهم درجات، فعلم بهذا أنه قد يشترك في الفضل اثنان، وأحدهما من الآخر بمنزلة الثَّرى من الثُّريا، وهذا كما أنه مفهومٌ متقرر عند أهل المعارفِ في الدنيا، فهو يتجسَّدُ في الواقع، ويكون مَرئيّاً بالأبصار إذا دخل الناسُ الجنةَ، فعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، متفق عليه، وهذا من فضل اللهِ تعالى على عبادِه، فلا شك أن الدرجاتِ العُليا والمقامات الشامخة لا تُنال إلا بقدر عالٍ من صفاء السريرة وانقياد الجوارح، وسلامة اللسان من الانفلات، فرفع منزلة من قاموا بهذا أحسن القيام، ولما لم يتمكّن سائر المؤمنين من الوفاء بذلك لم يحرمهم ربُّهم من التحلي بالفضل بقدر ما بذلوه من الطاعة، فجعل مصير المؤمن الجنةَ مهما أسرف على نفسه، وإن عاقبه بذنبه نجّاه بعد ذلك بإيمانه. الثانية: إذا كانت الأعمال الصالحة والفضائل مشتركة في كونها مَحْمدةً مع تفاوتها، فالمطلوب في سبيل تحصيلها أمران: أحدهما الاجتهاد وعلوُّ الهمة وعدم القناعة بالأدون، والأمر الآخر عدم الزهد في العمل الصالح، والخلق الفاضل مهما تراءى قليلاً، فالإنسانُ إما مجتهد، ومن شأنه أن يعتني بالقليل والكثير، والدقيق والجليل، وإما مقصِّرٌ وهو إن زهد في القليل هلَك؛ إذ ليس بعد عزوفه عنه إلا الاستسلام التامُّ، ولا شك أن النفسَ الأمَّارة بالسوء كما تصرف المقصّرَ عن الأعمال الجليلة الشاقّة، كذلك تُزهّده في الأعمال اليسيرةِ، فقد يزهدُ المقصّرُ في أن يقرأ سورةً من القرآن الكريم، وتبرر له نفسه ذلك بأن الأوْلى الحفظ المتقن والختماتُ المتوالية، وهو ليس حافظاً ولا متقناً ولا ذا همة في الختمات، فيظنُّ أنه لما فاتته درجةُ المئة بالمئة، فلا منزلة له إلا الصفر، وهذا خطأ فادح، فتلاوة ما تيسر من القرآن الكريم بركة، وعسى أن يقودَ القليل منها إلى الكثير، وهكذا الصدقة يهملها بعض الناسِ؛ لأنه يرى أهل الدرجات العليا من المتصدقين، وهم يعملون أعمالاً عظيمةً، ينتفع المجتمع بخدماتهم، فيستقلُّ أن يبذل ما أمكنه، غافلاً عن أن كل معروف صدقة، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» أخرجه مسلم، ومن الصدقة الميسورة أن يكفَّ عن الناس شرَّه، وأن يتقيد بأنظمة البلد ويسهم بذلك في استتباب أمنه، فيكون قد أسدى إلى المجتمع معروفاً. الثالثة: من أكبر الأخطاء الناتجة عن تجاهل المسافة بين الصفر والمئة الحكم على الناس بمقتضى ذلك؛ وهذا من مظاهر البدع التي نجمت مبكراً وما زالت تعصف بالمجتمعات؛ فإن نحلة الخوارج مبنية على النظر في المئة وما قاربها، وجعْلِها معيار للنجاة في الآخرة وعصمة الدم والعرض في الدنيا، فاعتقدوا تكفير مرتكب الكبيرة، واستحلُّوا دماء المسلمين بما يعدونه تقصيراً منهم في بلوغ الغاية، وقابلهم المرجئة، فلم ينظروا إلى البون الشاسع بين المقصّر والمجتهد، فقالوا: مرتكب الكبائر مؤمن كامل، ولا تضرُّ مع الإيمان معصية، والحقُّ بينهما، فللمسلم مكانته بحسب درجاته، وله عصمته وحرمته ما لم يرتكب ما يوجبُ عقوبته والأخذَ على يده، وإذا ارتكبه فعقوبته موكولة إلى السُّلطة، وليس لآحاد الناس مدُّ يده لتنفيذها.