قد يتعاطى أحدهم ما يضرُّ بصحته وبدنه، أو يؤول إلى الإضرار بالآخرين، فإذا نصحه مشفقٌ عليه احتجَّ بأن له الحقَّ في تصرفاته، وهو جاهلٌ أو متجاهلٌ أن نصحاءه من أسرته أو ذوِي ودِّهِ عليهم أعباءٌ معنويةٌ من جراء تأذيهِ أو تورطه، وكأنه يظنُّ أن كونَ الشيء صواباً لا يُلامُ فاعلُه يكفي فيه مجرّدُ إمكانِ حصولِه على أرض الواقع.. لكل شيءٍ في هذه الحياة قدْرُه الذي ينتهي إليه، وإذا تجاوزه لم يحسُن، بل يكون مذموماً عرفاً، ممنوعاً شرعاً، فقد يكون المنطلق حسناً مأذوناً فيه، ويتمادى صاحبه حتى يتخطَّى حدَّ الإذنِ، ويتحول من كونه منتفعاً بما يسوغ له الانتفاع به إلى كونه مضرّاً بنفسه وبالآخرين، فمن الخطأ البيّن أن يتخيَّل الإنسانُ أن ممارسته لحقه الخاصِّ تُخوِّله التصرف فيما شاء كيف شاء بلا حدود، إذا كان انطلاقه من حقه وإمكاناتِه الخاصة، وأن حريته مطلقةٌ في اتخاذ قراره الذي يلائم رغبته، وفي هذا الظنِّ عدمُ اعترافٍ بمحدودية حقه، ومن العجب أن يتصور الإنسان ذلك في هذه الحياة التي هي بنفسها محدودة، ولكل فردٍ منها حدوده، ولولا وضع الخطوط الحمراء الفاصلة بين حدوده وحدود غيرِه لكانت أوضاع الناس فوضى، بحيث يقتحم كلٌّ منهم على الآخر خصوصياتِه وصلاحياتِه، بدعوى ممارسة الحق، وقد جاءت الشريعة المطهرة بقواعدَ يُعرفُ من خلالها ما يحقُّ للفرد، وما يكون به متعدياً على حقِّ غيره، وعلى ضوء ذلك تقررت الأنظمة المرعيّةُ في دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية، ولي مع حدود الحق الخاصِّ وقفات: الأولى: كثيرٌ من الناس ينطلقون في مجاوزة الحدِّ من حقيقة لا خلاف فيها، لكنهم يتجاوزنها، فيصير تصرفهم خالياً منها، فهم ينطلقون من أن المِلك اختصاصٌ يقتضي صحة التصرف في المملوك، وإطلاقَ اليد في الانتفاع به، وهذه حقيقةٌ ثابتةٌ شرعاً ونظاماً وعرفاً، فالمالك له الحق في التصرف في أملاكه إلا إذا أخذت السلطة الشرعية القضائية على يده بسببٍ من أسباب الحجر لمصلحته، أو مصلحة الآخرين كالدائنين أو الورثة، ولكن هذا الحق مجاله المنافعُ، سواء الضرورية أم الحاجية أم الكمالية، وكذلك نفع غيره من الناس حسب ما يتيحه الشرع والنظام، فإن تعدَّى حدَّ الانتفاع والنفعِ المأذون فيهما؛ بالتبذير والإنفاق فيما يضرُّه أو يضرُّ غيره، أو يُخلُّ بأمن المجتمع، فقد تخطّى حدوده؛ لأن إطلاق اليد إنما هو في دائرة السائغ شرعاً ونظاماً، وليس معناه توفير الحرية فيما يصنع بالمال، والمال منحةٌ إلهيةٌ، وقد منَّ الله تعالى به على من شاء، فعلى المنعَم عليه أن يشكر ربّه على ذلك بالانتهاء عن الإسراف المنهي عنه بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين)، ويظهر قبح الإسراف بمقارنته بالشُّحِّ، فمع أنهما ضدانِ إلا أنهما متشابهان في الذمِّ والقبح والحرمة، فلينظر المبتلَى بالإسراف إلى المبتلى بالشح الخانق الذميم -وهو من كان له مالٌ، ويُعاني البؤس هو وعياله تقتيراً- ولا شك أنه سيستهجن حالَه، لكن ليتذكرْ أنه معه في خندقِ الذمِّ كما قيل: ... كِلا طَرَفَي قَصْدِ الأمُور ذمِيمُ. الثانية: المبذر -بأي وجهٍ كان التبذير- قد يحتجُّ على فعلته بأنه يُنفقُ ماله، ومن حقه أن يصرفه كما يرى، وهو في هذا غافلٌ عن أنه خرج من حدِّ حقه إلى حدِّ الإضرار بالناس، فإذا كان يملك الفلوس التي يشتري بها ما يبذِّر به، فالبضاعةُ معروضةٌ لمصلحة المجتمع، والإنصاف يوجب أن يأخذ كل منهم ما يكفيه، فإذا اشترى منها المبذر فوق حاجته، فقد اعتدى على الآخرين، وضيق عليهم أرزاقهم، وأخفُّ ما يجنيه عليهم رفعُ أسعار البضاعة أو الخدمة، وأيضاً الإنسانُ له الحق في الانتفاع بماله، لكن تبقى حقوق ورثته متعلقةً بماله، وليس له أن يتلاعب به بشكلٍ يؤدي إلى تضييع حقوقهم، ولو كان ذلك فيما أصله البر والإحسان وبُولغ فيه، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ أنه قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ» ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) متفق عليه، فالصدقة المأمور بها لا يُؤذَن للإنسان في أن يُسرف من خلالها؛ رعايةً لحقوق ورثته، فغيرها من باب أولى. الثالثة: يُغالي بعض الناس في التبرير لتصرفاته ومواقفه بأن له الحقَّ في أن يقول كذا، أو يرى ما يقتنع به، أو يفعل بنفسه ما شاء، فقد يتعاطى أحدهم ما يضرُّ بصحته وبدنه، أو يؤول إلى الإضرار بالآخرين، فإذا نصحه مشفقٌ عليه احتجَّ بأن له الحقَّ في تصرفاته، وهو جاهلٌ أو متجاهلٌ أن نصحاءه من أسرته أو ذوِي ودِّهِ عليهم أعباءٌ معنويةٌ من جراء تأذيهِ أو تورطه، وكأنه يظنُّ أن كونَ الشيء صواباً لا يُلامُ فاعلُه يكفي فيه مجرّدُ إمكانِ حصولِه على أرض الواقع، وهذا خطأ، فالتصرفات والمواقف والأقوال كلها محدودة بما هو الصواب في نفس الأمر، وهو ما يُؤذنُ فيه، وليست له تبعاتٌ شرعيةٌ أو نظاميةٌ، ولا تستهجنه القيم والمبادئ النقيَّة.