حالة التاريخ الصارمة التي تذكرنا بلحظات يوليوس قصير تتكرر في المشهد ذاته مع كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري في أميركا، ويكرر الساسة في الحزبين -الجمهوري والديموقراطي- للشعب الأميركي والعالم بأن سياستهم سوف تتم دائمًا بالطريقة الصحيحة، وأنهم يملكون الآليات المناسبة لتصحيح أي تهديد يمكن أن يحدث للنظام الأميركي... أعظم تركةً اعتاد التاريخ على تقديمها للبشرية هي تركة التجربة الإنسانية القابلة للتكرار، فكما يقال عن التاريخ إنه يعيد نفسه، التاريخ دائماً ما يمتلك اليد الأطول في توقع مسارات المستقبل في سردية الدول والشعوب، ومهما كانت فرضية التراجع الأميركي من القمة فرضية غير مقبولة من الكثيرين إلا أن حقيقة التاريخ صارمة، فمنذ أكثر من ألفي عام كانت روما التي صممت أميركا على نهجها، في مواجهة الخيار ذاته الذي يتردد على مسامعنا اليوم، فكلا المرشحين من الحزبين يمتلكان الأيديولوجيا السياسية نفسها التي حملها يوليوس قيصر من خلال وعده إعادة روما إلى مجدها القديم، ولكن الذي حدث أن قيصر بنى العرش لنفسه وأطاح بالأعراف الديموقراطية وحمل روما نحو مسار تعارض بشكل كبير مع إمبراطورية هائلة حكمت العالم طويلاً. التصورات المسموحة في القرن الحادي والعشرين للمقارنة أصبحت ضيقة جداً ولكنها نافذة، فسنن الكون حقيقة ثابتة والحديث عن التحولات الأميركية حقيقي، ولكن تصورات السرعة التي سوف يحدث فيها أمامها الكثير من الأسئلة المهمة والتصورات الفكرية والمعرفية التي لا بد وأن يتم دراستها ومناقشتها قبل أن يتأكد العالم من وضع جمهورية أميركا على طريق التغيّر المؤدي إلى التحول، الاختيار الذي يواجهه الشعب الأميركي بين الحزبين خيار متناقض تماماً وهذا أحد المؤشرات الكبرى على صراع الديموقراطية مع مستقبلها، فالشعب الأميركي يقف أمام خيارين لا ثالث لهما فإما أيديولوجيا شعبوية تتمادى في تغيير قيم أميركا وأخلاقيات الإنسانية أو أيديولوجيا تقودها شخصية تشبه في تكوينها الفعلي شخصية يوليوس قصير. أميركا تدرك أنها تعيش مواجهةً مع التاريخ الذي يعرض مشاهد الإمبراطورية الرومانية الأخيرة، لذلك فالحقيقة التي لا مفر منها تقول: إن أميركا أصبحت تبتعد تدريجياً عن قدرتها المطلقة لقيادة العالم بشكل انفرادي محتكر لصالحها، وهذا ما سوف يطرح السؤال العالمي الذي يهم كل الدول بلا استثناء حول مستقبل العالم، وما الصيغة السياسية التي سوف يتم تطبيقها، فهل يحمل المستقبل للعالم إمبراطوريات أكثر نعومة من أميركا أم إمبراطوريات أكثر خشونة، أم أن الانقسام والتناقض الدولي سيكون هو الحل القادم، تلك أسئلة تستوجب الإجابة والتنبؤ. الرسائل التي يقدمها مرشحو الرئاسة الأميركية اليوم من الحزبين رسائل متفجرة غير معتادة وهي في حقيقتها تهدد نسيج الدولة الأميركية فكل الرسائل التي نسمعها ونراها من الحزبين تفتقد إلى المشتركات التي تتمسك ببناء الدولة الأميركية، فحالة التاريخ الصارمة التي تذكرنا بلحظات يوليوس قصير تتكرر في المشهد ذاته مع كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري في أميركا، ويكرر الساسة في الحزبين -الجمهوري والديموقراطي- للشعب الأميركي والعالم بأن سياستهم سوف تتم دائماً بالطريقة الصحيحة وأنهم يملكون الآليات المناسبة لتصحيح أي تهديد يمكن أن يحدث للنظام الأميركي، ولكن هذه الأفكار تطرح سؤالاً جوهرياً حول ماهية نقاط الضعف الهيكلية العميقة داخل الدولة الأميركية وإطارها السياسي في القرن الحادي والعشرين. وجه الشبه كبير كما قال أحد الباحثين عند وصفه اللحظات الأخيرة لسفينة تايتنك، فهو يقول: بينما مياه البحر تتسرب إلى عمق السفينة نتيجة التصادم بجبل الجليد، كان نخبة من الأثرياء والسياسيين في أعلى السفينة يتناولون الطعام في المطاعم الفاخرة في أعلى السفينة دون إدراك لما يجري أسفل منهم، والسؤال مرة أخرى يقول هل بدأ التاريخ بالكشف عن أنيابه الحادة حول الإمبراطورية الأميركية ومستقبلها..؟ السؤال الأعمق أيضاً يدور حول قوة الهياكل السياسية لأميركا وهل مازالت بالمسار ذاته، حقيقة الأمر فإن التحول الأميركي بدأ فعلياً مع بداية القرن الحادي والعشرين وتحديدًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومنذ ذلك الوقت والعالم يتحدث عن النظام العالمي الجديد الذي يتبلور بطريقة غير مكشوفة حتى هذه اللحظة، فعصر التقنية والإنترنت استطاع أن يعيد طرح الديموقراطية عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت بشكل كبير في تشتت الواقع الدولي وأنشأت فكرة (ديموقراطية تويتر) التي ساهمت في تكريس الشكوك حول حقائق المعرفة والنظريات والتاريخ. أخيراً فإن السؤال الأكثر طلباً وتتطلع الكثير من الدول إلى الإجابة عليه وخاصة دول الشرق الأوسط يدور حول مدى الرغبة الأميركية للبقاء على قيد الحياة في هذا العصر الجديد حيث التقنية والتكنولوجيا يغيران الكون بسرعة، وماذا يجب على أميركا أن تتعمله للتعامل مع العالم من حلولها خاصة كيفية التحدث مع الآخرين وكيفية الاستماع لهم، دول الشرق الأوسط معنية أكثر من غيرها في فهم سياق التاريخ الذي تمر به أميركا فهماً دقيقاً لا يستثير الأسد الذي كبر سنه.