في ضوء من الأحداث المتوالية والأهازيج المتبعثرة، التي تتداخل بين عواطفنا وتود أن تتجانس، وتحمل في نرجسيتها أشياء كثيرة بين أضدادها وانفعالاتها، إذ كيف ينقلب الكره إلى محبة والمحبة هي الأخرى إلى كره، أليس هذا شيئا من التناقض وإن تشابهت الأشياء ففي جوفها اختلاف عميق كالماء ومادة الكيروسين الأبيض! نحن في هذا العالم المترامي الأجواء؛ أشياءٌ متبعثرة؛ تجمعُنا تارةً الصدفة وأخرى الحب؛ ولكونه أسمى ما في الوجود أي الحب فهو لا يكون كذلك بدون أخلاقٍ فاضلة وحسن النية الصافية، ولهذا اشترط الدين ألا يكون فيه إكراه (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) إذ عليك أن تُقبل على الشيء بمحبة، فبدونها لا يكون إلا صدفة أو خبطة عشواء تصدكَ عن معرفة حقائق نفسك، فحين تعرفها سلكت طريقك الأمثل وضياءك الأكمل، ونور وجودك يتمثل في الأجمل، لأنك حين تتِبع دينًا وتقبل عليه بمحبة ستعيش بنهجٍ قويم لأنه منهاج حياتك حين تكون على قناعة من ذاتك. فالشملُ جامعه والأيام تصدهُ، غيداء إن نطقت؛ في محراب السكون غمرت، وفي إقطاع الكلمة سلوانٌ من المنطق، وترومها الفلسفة من محبرها. يا لها من صدفةٍ كيف جاشت بها الدنيا وكيف بعثرها الزمن وهي كالأوتاد في قاع الجبل. هذه هي النفس إن أحبت اقتربت، وإن كرهت صدت؛ لأن في حقيقة كل عقلٍ جوانب طبيعية وأخرى ميتافيزيقية، والعقل في أكثر مشاهداته لا يركن إلا للواقع وهذا لُب الخطأ، إن تركنا هذه المسافة من حياتنا لا نعيش في رحابةٍ وسعة، فالعقل في جانبه المغمور له أسفاره وأبعاده. وجوامع الكلام يكون في المنطق الرياضي، ولا كل شيءٍ يُقاس يكون صحيحًا، إذ لا تتوافق الأزمنة ولا تتناسق المجتمعات في ثقافاتها وحياتها. فالاختلاف يُكمن في طريقة التفكير والإيمان المُتبع في السلوك العملي والنظري. فهذه الأمور تتغير بين وتيرةٍ وأخرى من خلال التقدم أو التخلف، إذا ارتفع شأن العقل الجمعي تحسن أداء المجتمع ويصعب على أي فئةٍ ملوثة بضلالها السيطرة عليه. والنكوص والتضعضع في العقل الجمعي لا يأتي إلا بنتائج وخيمة. وفي هذا المضمار نستنتج أن العقل الجمعي لا يختلف في تصوره عن العقل الفردي، إلا أن عقلية الجماهير يبدأ عليها التأثر من خلال مخاطبة نفوسها أو التلويح عليها في ملامسة عواطفها وأشجانها، لأن المجتمع مطبوع بطبائع كثيرة وجلها متوحدة بصفات مشتركة. وهو يحتاج إلى بيان ومكاشفة صريحة كي لا ينخدع من زمرةٍ تسوسه نحو المهالك (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) إذ لا بد من ترك الماضي المتعثر والإقبال على مستقبلٍ واضحٍ مزدهر لا إجبار فيه ولا إكراه فيه نحو حياةٍ مشتركة تعلوها المحبة بسموها النرفاني.