ساعدنا على انتشار الرداءة وتناسل التجارب الزائفة تجاهلنا القصائد القيمة ورفعنا القصائد المبتذلة قدم الأديب والناقد سعيد السريحي، وهو أحد جيل الرواد في الأدب العربي في المملكة، ويعد من أهم رموز الحداثة في العالم العربي، سلسلة من المنشورات في منصة (x)، عنونها ب"اعترافات متأخرة"، والحقيقة ليست متأخرة فقط، ولكنها خطيرة جداً؛ قد تغير من مفاهيم كثيرة حول الشعر والشعراء، والنقد في مرحلة تعد من المراحل المهمة والفاصلة في تلك المرحلة، حتى أن السريحي قال: "ساهمنا نحن النقاد في تلك الفترة في تعطيل تطور النقد الأدبي وتوالد النصوص الرديئة، وأسهمنا على نحو آخر في إفساد الذائقة". (انتهى). كلام خطير ينم عن قاعدة هشة للشعر والشعراء، لمقاصد قد ألمح لها السريحي بدون أن يحدد سبباً لهذا النقد في تلك المرحلة. وهنا يفتح المجال لتساؤلات عديدة، وهي: من هم هؤلاء الشعراء الذين جعلوهم بارزين رغم وهن وضعف قصائدهم؟ وعلى أي أساس اتفق هؤلاء النقاد على ذلك؟ وما المقصد من هذا كله؟ ومن المستفيد؟ وهل كانت الصحوة في ذلك الوقت أحد الأسباب كنوع من الاستفزاز؟ كما كانت الروايات في ذلك الوقت المنفس الوحيد للروائيين لإظهار ما بداخلهم من خلال رواياتهم تجاه الصحويين، مثل: تركي الحمد وعبده خال وعبدالله بخيت. أسئلة كثيرة تراود أي شخص يقرأ الاعترافات المتأخرة والخطيرة. ويرى د. معجب العدواني أن الصديق د. سعيد السريحي له الحق كاملًا في التعبير عن تجربته النقدية معترفًا بما يريد، متى يشاء، وكيف يشاء! وليس له الحق في الاعتراف نيابة عن النقاد، أو تغييب بعض التجارب الشعرية، أو النظر بدونية إلى اختيار القراءات النقدية، ببساطة.. لن يجدي البحث عن جوهر المسطرة التي تقاس بها نجاعة الأعمال الفنية، فلم يكن الشعراء يومًا متساوين في تجاربهم، ولم يكن النقاد كذلك، ولم تكن القراءات كذلك. وأضاف العدواني لقد كتبت عن حركة الحداثة النقدية بالتفصيل، الذي يعتمد على البعد العلمي لا العاطفي في الفصل الأول من كتابي (الحداثة في الأدب السعودي: أسئلة ومفارقات)، الذي صدر العام المنصرم، ربما كان العود إلى ذلك ناجعًا. "كذبة النقد المعياري" ويقول أ. د. عادل خميس، أستاذ النقد الحديث بجامعة الملك عبدالعزيز: "يستفزنا أبو إقبال، ولطالما فعل. الكلمة التي تأتي من ناقد أصيل، ومفكر حقيقي، تجعلنا نضطرب، ونتساءل، ونراجع قناعاتنا. وأنا -بوصفي صديقاً من جملة النقاد الذين اعتُرف نيابة عنهم- أجدني لا أستطيع أن أتفق مع شيخي وصديقي.. وأنا سعيد جداً لأني لا أتفق". وأضاف "كتب النقد تشهد على غير ما قيل؛ تصفحوا كتب النقاد الحقيقيين، وأشدد على وصف (النقاد الحقيقيين)، ستجدونها مكتظة بالدراسات المنهجية الجادة لنصوص شعرية خالدة للثبيتي والقصيبي والسياب والبردوني والمتنبي وأبي تمام. مضطر أن أشدد هنا على الثبيتي وأبي تمام لغاية نصف بريئة، بالتركيز على الأعمال الجميلة يسهم النقد في وضع خطوط عريضة للجماليات، يحارب النقاد الرداءة بالتركيز على النصوص الجميلة. هذه الدراسات منتشرة بكثرة في الكتب والمجلات العلمية، لكن الناس لا تقرأ! هذا هو الأمر ببساطة، الجمهور لا يقبل على كتب النقاد وأبحاثهم العلمية. فهل يلام النقاد هنا؟ هذا أمر مطروح للنقاش. هل نستخدم الشعر؟ نعم، نستخدمه ويستخدمنا... اللهم لا اعتراض. هيغل أراحنا عناء الجدل بجدليته". أين المشكلة؟ "المشكلة في رأيي في الحتمية التاريخية التي تغيرت فيها أحوال الثقافة وعوالم الكتابة والرأي، حيث تقدمت الجماهير للصفوف الأولى، وأصبح النشر مسألة متاحة للجميع دون عناء، هذا هو العامل الأول خلف انتشار الرداءة. هذه نقطة مهمة في سياق حديثنا؛ لم تعد الجماهير في حاجة لرأي الناقد، لكي تنشر، وتقبل، وتروّج لما يناسبها، من قال: إن دور الناقد أن يتأبط سلاحه في وجه الجماهير -في هذا الزمن- ليقول لهم هذا رديء وهذا حسن! هذه الوظيفة تراجعت للصفوف الخلفية في النقد، وأصبح التحليل الوظيفة الرئيسة والمسيطرة. من شأن التحليل المنهجي أن يكشف لعامة القراء -من غير المتخصصين- كيفية بناء الخطاب الشعري، ولهم أن يحكموا على بذلك. نعم؛ لم يعد الحكم من الوظائف الأثيرة للنقد، هذا التغير ليس اختيار النقد والنقاد، بقدر ما يمثل حتمية تاريخية. سأنتهي بالخدعة الكبرى التي تدعى (النقد المعياري)، لأن النقد لا يمكن أن يكون معيارياً، وذلك ببساطة لأن مسألة الذوق لا يمكن ضبطها وتقييدها، المعيار في النقد قيد على الإبداع، ومهما فعلنا معه من محاولات تثقيف وضبط فسيظل عائماً ضبابياً وحمال أوجه، ببساطة لأننا لن نستطيع تخفيف نسبة الذاتية المسيطرة عليه وعلى مسألة تلقي الإبداع. الحل إذن في منهجية التحليل، يمكن للمنهجية المحكمة التي تتناول الأعمال الشعرية بالتحليل أن تصل لأسرار الشعرية، وأن تكشف عن آليات الخطاب الجمالية، دور هذه المنهجيات التحليل، وفي هذا الاتجاه تطورت النظرية النقدية في العصر الحديث، أما الحكم على الأعمال فيظل مسألة ذاتية، رغم أني أعترف أن النقاد أقرب إلى إدراك طبيعة النصوص وحركية الجماليات وأسرارها. ونشر د. فواز اللعبون في منصة X جاء من ضمنها: "وشهد شاهد من أهل الحداثة أنهم يجهلون الشعر، ولا يجيدون تذوقه، وأنهم أفسدوه بنقدهم الباهت، ونظرياتهم الباردة، وأن معظم نقدهم زوبعة في فنجان لا يَرقَى ولا يَبقَى، وأنهم كانوا شِلَلاً يكتب بعضهم عن بعض، وفي الوقت نفسه كانوا دكتاتوريين يُقْصُونَ مَن ليس على نهجهم، هذه الاعترافات ظهرت بعد أن تفرقوا شِيَعا، وتهاوت منابرهم الورقية. شكراً أ. سعيد السريحي.. شهادة ختامية كلها وضوح وشجاعة". ومن تلك المنشورات يقول السريحي: "سأعترف أصالة عن نفسي ونيابة عن أصدقائي العاملين في مجال النقد، ولا أكاد أستثني منهم أحداً، أننا أهملنا الشعر باعتباره شعراً وانصرفنا إلى أن نختار منه ما يقف شاهداً على ما نثيره من قضايا وما نبشّر به من نظريات. وأعترف أصالة عن نفسي ونيابة عن أصدقائي النقاد أننا بما كنا نقوم به إنما كنا نستخدم الشعر ولم نكن نخدمه. وأعترف أننا نحن الذين كنا ندعو إلى نقد نصوصي يعنى بالنصوص الشعرية في ذاتها ويعمل على كشف القيم الجمالية فيها انتهينا إلى ما يمكن أن يكون غدراً بالنصوص والاكتفاء بالتقاط شواهدنا منها. وأعترف أننا نحن النقاد الذين كنا ندعو إلى النظر في النص باعتباره وحدة واحدة لا تتجزأ انتهينا إلى أننا لا نجد حرجاً في التقاط البيت والبيتين لنطلق عليها حكماً أو نُجري عليها تحليلاً دون أن نضعها في سياقها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من نص كامل متكامل. وأعترف أن عملنا نحن معشر النقاد الذين كنا نظن أنفسنا جدداً لم نتجاوز فيما انتهينا إليه ما كان يقوم به النحويون واللغويون والبلاغيون من اجتزاء للشواهد على حساب النص المتكامل. وأعترف أصالة عن نفسي وعن أصدقائي النقاد أننا كثيراً ما تنازلنا عن القيمة الفنية للشعر مكتفين بما نجد فيه ما يقوم مقام الشواهد التي تدعم ما ننحو نحوه من نظريات أو الأمثلة التي نستعين بها على شرح مذاهبنا في النقد. وأعترف أننا تعالينا على النقد المعياري الذي كان من شأنه الكشف عن ضعف كثير من النصوص وزيف كثير من التجارب، فساعدنا بذلك على انتشار الرداءة وتناسل التجارب الزائفة. وأعترف كذلك أصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي أننا غضينا الطرف عن وهن كثير من نصوص الشعراء الذين كان لهم فضل تأسيس حركة الحداثة فاختلط الجيد من شعرهم بالرديء وانحرفوا بذلك عما أسسوا له من قبل، وانقاد وراءهم شعراء اتخذوهم مثالاً يُحتذى. وأعترف أننا لم نعطِ النقد الأدبي حقه، وبلغ الأمر بأن ادعى واحد منا موته وتواطأ الآخرون على إهماله، وخاصة الجانب المعياري منه، وكانت محصلة ذلك أن ساهمنا في تعطيل تطور النقد الأدبي وتوالد النصوص الرديئة وأسهمنا على نحو آخر في إفساد الذائقة. أعترف أننا نحن معشر النقاد الذين كانت كل قصيدة تنتمي لحركة الحداثة تمثّل لنا حدثاً ثقافياً بتنا نجهل كثيراً من القصائد التي تنشر والدواوين التي تُطبع وإذا ما وقفنا على شيء من هذه أو تلك لم نتجاوز في حديثنا عنها الانطباعات التي لا تسمن ولا تُغني من جوع. واختتم السريحي قائلاً: وتجاهل المفتونون منا بالتنظير، أولئك الذين يتوجون تعريفهم لأنفسهم بأستاذ النظرية، حقيقة أن النظريات الحقة إنما تنبثق من النصوص العظيمة، وليست تلك التي تُستلف أو تُستخلص ثم يقام الشواهد عليها من النصوص بإعتبارها برهاناً عليها وصك ملكية لها. يبقى القول إن هذه الاعترافات كما وصفها الناقد سعيد السريحي تمثل رأيه، سواء اتفق معها أم لا ، لكنها حتماً ستحرك الراكد من الأسئلة والتساؤلات، وستشهد الأيام المقبلة حالة من الالشتباك النقدي والمعرفي، فهو رأي من قامة لها حضورها النقدي المهم عربياً، وكما يبدو من آراء من تم الاستئناس بآرائهم بأنهم لا يتفقون، وقد أشاروا بأنهم لم يفوضوه بالتحدث نيابة عنهم كما جاء في تغريداته. عادل خميس: النقد المعياري كذبة وكُتب النقد تشهد بالعكس د. اللعبون: نقدهم زوبعة في فنجان لا يَرقَى ولا يَبقَى د. العدواني: ليس له الحق في الاعتراف نيابة عن النقاد الرياض – صلاح القرني