القبض على باكستاني يروج الشبو بالشرقية    37 بلدة جنوبية مسحها الجيش الإسرائيلي وأكثر من 40 ألف وحدة سكنية دمرت    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الولايات المتحدة تختار الرئيس ال47    مع سباق البيت الأبيض.. من يهيمن على الكونغرس الأمريكي؟    سيناريو التعادل .. ماذا لو حصل كل مرشح على 269 صوتاً؟    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    اليوم الحاسم.. المخاوف تهيمن على الاقتراعات الأمريكية    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    إشكالية نقد الصحوة    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    تنوع تراثي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس        مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقاد وشعراء في ندوة "الوسط" حول شعر التسعينات . إشكاليات القصيدة الحديثة في السعودية : الجماهيرية الصعبة بين اعتكاف النقد ومأزق التراث 1 من 2
نشر في الحياة يوم 04 - 09 - 1995

أين القصيدة السعودية الحديثة اليوم، بعد سنوات من مغامرة الخروج على النمط العمودي؟ ما قدرتها على التجذّر في الوجدان وعلى الانتشار الجماهيري؟ كيف تواجه النزعة الأدبية المحافظة وتتعايش مع تقاليد قائمة على الشفوية الثقافية؟ أي دور تلعبه المؤسسة؟ وهل هناك نقد يرافق مختلف التجارب، يحاسبها ويقدّمها وينظّر لها؟ أيّهما يعاني من غياب الآخر الناقد أم المبدع؟ "الوسط" جمعت في جدة والرياض والدمام ستّة شعراء وستّة نقاد، يمثلون مختلف الاتجاهات والحساسيات، للقيام بجردة حساب لا بدّ منها مع دخول مرحلة الرشد، وما يرافقها من مراجعات وتساؤلات واعادات نظر...
يضجّ الواقع الشعري في السعودية - شأنه في ذلك شأن أقطار عربية أخرى - بتعدد التيارات واختلافها، على المستويات المنهجية والادائية والجمالية... وانطلاقاً من تأثيرها على المتلقي. وفي حين يكاد كثير من الناس يجمع على أننا نشهد بداية النهاية بالنسبة إلى أعرق فنون العرب، نلاحظ ازدهاراً غير عادي وزخماً في التأليف والانتاج يذكّران بالعصور الذهبية للشعر، في نظر عدد آخر من المتابعين يبشّر بقرب انفراج الأزمة التي يعيشها الشعر العربي الراهن.
تحاول "الوسط" الاجابة عن بعض تلك الاسئلة المعلّقة، مع مجموعة من الشعراء والنقاد الموزّعين على جدّة والرياض والدمام، انطلاقاً من التجربة السعودية، والحركة الشعرية في المملكة راهناً ومستقبلاً. حول طاولة النقاش تحلّق عدد من الاصوات الفاعلة في الساحة الشعرية، لمناقشة محاور عدّة، منها اشكالية التلقي، المواكبة النقدية، واقع ومستقبلية قصيدة النثر، ثم عودة بعض الشعراء إلى الشكل العمودي في الشعر...
جلسات النقاش التي تجيء بمثابة تسجيل أمين وحيّ لنبض الحياة الشعرية في السعودية، ضمّت النقاد عبدالله الغذّامي، سعد البازعي، سعيد السريحي، فائز أبّا، عبدالرؤوف الغزال، أحمد سماحة، والشعراء: علي الدميني، حسن السبع، محمد الدميني، غسان الخنيزي، سعد الحميدين، هاشم الجحدلي. وننشر في يأتي وقائع الندوة على حلقتين.
الوسط: يزعم البعض أن القصيدة الحديثة في السعودية لا تجد صدى معقولاً على مستوى المتلقي. فهل هذه القطيعة موجودة فعلاً، وما أسبابها؟ وهل يعتبر ذلك مؤشراً حقيقياً لمكانة هذه القصيدة في الوجدان العام؟
- عبدالله الغذامي: لا أظنني أشارك في فكرة عدم انتشار القصيدة الحديثة بين عامة القراء في السعودية. فالشواهد تشير إلى أن القصيدة الحديثة حظيت باستقبال كبير جداً. وحينما أتكلم عن الاستقبال فإنني لا أعني مجرد القبول والرضا عن التجربة، بل أشير أيضا إلى حالات الرفض والجدل والتردد، وإلى حالات الأخذ والرد حول القصيدة الحديثة. وهذه في مجملها تمثل حالات استقبال مطلوبة أولاً، كما انّها حالات استقبال ايجابية خلافاً لما يظنّه البعض. إيجابية لأنها تسببت في اثارة كثير من الاسئلة والمناقشات حول مفهوم الشعر، وحول مفهوم الدلالات الشعرية، ومفهوم الغموض والوضوح، ومفهوم التجربة الجمالية الابداعية. كل ذلك أفاد كثيراً، إذ أننا وجدنا مثلاً أن التجربة الحديثة فتحت لنا مجالاً عريضاً لامتحان النظرية النقدية والمنهج النقدي في تفاعله مع التجربة الابداعية من جهة، وفي تفاعلاته مع جمهور القراء والمستهلكين للنص والثقافة من جهة ثانية.
- سعيد السريحي: في البداية لاينبغي علينا أن نفصل مأزق القصيدة الحديثة في السعودية، عن مأزق هذه القصيدة على مستوى العالم العربي. فالمتلقي على تنوعه هنا، هو المتلقي في الوطن العربي، وليست هناك خصوصية على هذا الصعيد. ويبدو لي أن مأزق القصيدة الحديثة يعود إلى أكثر من سبب. أهم هذه الأسباب واحد يتعلق بالذائقة العامة للمتلقي، وما انبنت عليه هذه الذائقة من تصور لطبيعة النص الشعري، ثم تكريسه عن طريق الاجهزة التربوية والاعلامية وغيرها. من هنا فإن اصطدام النص الحديث بالواقع ليس حدثاً بالمطلق، بل رهين لحظة ثقافية واطار تاريخي محددين. والمتلقي ليس بريئاً في موقفه من النص الحديث، لأنه معبّأ لرفضه...
أما السبب الآخر الذي يمكن التوقّف عنده هنا، فمرتبط بالجانب المعرفي. ذلك أن النص الحديث يتأسس على نظرة مغايرة إلى طبيعة اللغة، والشعرية منها تحديداً. والمتلقي في أسمى صوره تلميذ للفكر النحوي والبلاغي والنقدي التاريخي السائد، بُني معرفياً على نحو لا يؤهله لتلقي النص المعاصر الذي ينطلق من حيثيات مختلفة، ويجد شرعيته ومبرر وجوده في منطق آخر ومشروع وجودي وجمالي مغاير.
ما المقصود بالقصيدة الحديثة؟
- سعد البازعي: لعل من الضروري أولا أن نحدد المقصود بالقصيدة الحديثة. هل هي قصيدة التفعيلة أم قصيدة النثر؟ أم أن المشكلة المشار إليها تمس القصيدة الحديثة بغض النظر عن شكلها؟ يبدو لي أن هناك نسبية لايمكن تجاهلها، على اعتبار أن الحداثة مسألة زمنية أساساً. فجديد الأمس مألوف اليوم كما هو معروف: في الخمسينات كانت قصيدة التفعيلة كما كتبها السياب ونازك الملائكة وعبدالصبور وغيرهم تثير من المشاكل ما تثيره اليوم قصيدة النثر سواء في السعودية أو غيرها.
لكن قصيدة التفعيلة لا تلقى اليوم من الصعوبة ما يلقاه غيرها في العثور على متلقين متعاطفين. ومع ذلك فلا شك في أن كل ما خرج على النمط العمودي أقل حظاً من غيره في القبول، خاصة في مجتمعات محافظة لا تزال تعيش قدراً كبيراً من الشفوية الثقافية، وتهيمن عليها، إلى حد بعيد، بعض الانماط التقليدية. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن نتذكر أننا لا نملك - على حدّ علمي - أية دراسات ميدانية تقيس ردود الفعل التي تثيرها، لدى جمهرة القراء، الاشكال الحديثة سواء في الشعر أو غيره. فأغلب الأحكام التي تطالعنا، أحكام ظنية فيها هامش واسع للخطأ والصواب. وكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الدراسات، لكي تمنح رؤيتنا شيئاً من الدقة والصلابة الواقعية بعيداً عن الانطباع الصرف.
- فائز أبّا: أعتقد أن القارئ المهتم أصبح من تراثه الآن صلاح عبدالصبور، وأصبح رجل الشارع يستمع لقصائد مثل "أنشودة المطر". أي ان تداول القصيدة الحديثة منذ رعيلها الاول وحتى محمود درويش، متاح على نطاق واسع، فهذه الأخيرة تتقبلها الذائقة من دون أي اعتراض. لكن السؤال هو في مكان آخر: هل تجد تلك القصيدة صداها في الوجدان؟ أعتقد أن الاجابة هي: نعم! بدليل تجاوب الجمهور عندما يُقدّم نص ممسرح لعبد الصبور مثلاً.
والسؤال الآخر يدور حول تطور هذه القصيدة، أو حول ما توصلت إليه، وهنا سيكون الصدام حتمياً في حالة القصيدة النثرية مثلاً. أما بالنسبة إلى "الشكل المموسق"، فأعتقد أن الذائقة تقبلته. إن التحوّل عن المغامرات الشعرية بدأ منذ السبعينات، مع انحراف الشعر ذاته وظهور التأثير الأدونيسي منتشراً على قطاع عريض من شباب الحركة الشعرية في جميع أنحاء الوطن العربي. ولهذا أعتقد أن العامل الموضوعي يكون في داخل الحركة الشعرية ذاتها، أي أن العيب في داخل هذه الحركة وليس من المتلقي.
- علي الدميني: لم يعد النص الشعري الآن يعبر عن حاجة الجماعة بمفهومها الكمي، وإنما عن حاجة مجموعة من الأفراد المهتمين. يعود ذلك إلى التغيرات الهائلة التي طرأت على العصر، وجعلت بإمكان الانسان أن يبدع، أو أن يعبّر عن نفسه، بأشكال مختلفة. فالتكنولوجيا ألغت الحدود وفتحت الأمم على بعضها. كما أن العصر يتجه إلى التخصص، ولابد أن يكون القارئ على دراية بأساسيات هذا النوع من الابداع الذي يتعاطى معه. فالنص الآن يتجه إلى نخبة معيّنة، ولم يعد نصاً جماهيرياً، وإلا كان نصّاً يحاكي ظروفاً غير الظروف التي نعيشها.
- أحمد سماحة: يجب الاعتراف بأن القصيدة الحديثة لم تؤسس لنفسها حظوة لدى القراء. فالتراث مازال عالقاً في الذهن وهو تراث يعتمد على الشفاهة، في الوقت الذي يعمل البعض على ترسيخ القصيدة العمودية ويعادي بشكل ساخر القصيدة الحديثة، رابطاً القصيدة العمودية بالناحية الروحية. وهذه اعاقة في حد ذاتها. ثم إذا كان هناك مرسل وهو الشاعر ومستقبل وهو المتلقي، فلا بد ان تكون هناك منطقة وسطى للتلاقي، يكون فيها المتلقي على درجة من الوعي والثقافة والرؤية الحداثية. وبشكل عام فإن اشكالية التلقي لا تقتصر على القصيدة فقط، بل تتعدّاها لتشمل الأدب كله.
- سعد الحميدين: يتفاوت مستوى تلقي القصيدة الحديثة بين العامة والخاصة على حد سواء. فالعامة نشأت وتغذت على التراكم التقليدي الذي يأخذ من مثيله خارج البلاد تبعاً لامتزاج الثقافة العربية وتداخلها. وفي الوقت نفسه نلاحظ عدم جدية بعض المبدعين في مشروع ترسيخ القصيدة الحديثة، ماجعل التلقي قليل الصدى وفاقدا للقبول بنسبة عالية.
- هاشم جحدلي: لا يجب أن نلقي المسؤولية على المتلقي، لأنه أساساً ضد النص الحديث. فهذا النص بخصوصيته ليس نصاً في منتهى السهولة، اضافة إلى أن المتلقي لا يواكب التحوّل برضاه. فهو معتاد على شكل معين، ويعتبره معياراً للشعر بشكل عام. وبالتالي يجب التوصّل إلى اقناعه بطريقة ما، إلى استدراجه كي يستجيب للتغير الذي حدث في بنية النص. وهناك مسألة أخرى هي مدى استجابة المؤسسة للجديد، فمشكلة التلقي مطروحة برأيي على مستويين: المستوى الفردي والمستوى المؤسساتي.
- غسان الخنيزي: عطفاً على كثير من الأفكار التي وردت من قبل الأخوة، أتصور أن الذائقة "المتخصصة" مرتبطة بظاهرة "التشظّي" التي لا تقتصر على القصيدة العربية أو المحلية. فهذه الظاهرة نلحظها في مختلف الأشكال الأدبية الأخرى، كالسرد القصصي مثلاً، أو الفن التشكيلي والموسيقى الجادة، والفنون المشهدية كالمسرح والسينما، إلخ.
نرى أنفسنا دائماً أمام توليفات جديدة وأساليب مستحدثة، تفيد من التطورات الجارية في فنون تبدو في الظاهر متباعدة ومتناثرة. وأمام هذه الامكانات اللامتناهية من التجارب والتوليفات الابداعية، لا بدّ للمتلقي أن يكون على درجة كبيرة من المتابعة والوعي والإلمام بالخلفيات التي تقف وراء مثل هذه التجارب.
إشكالية التلقي ستزداد تعقيداً
- عبدالرؤوف الغزال: أعتقد أن هذه الاشكالية مهمة جداً في حياتنا الأدبية. فالشعر يزداد غربة وامعاناً في اللغة والكشف عنها والبحث فيها، لذا تراه لم يعد يلبّي الحاجة المباشرة نفسها لدى القارئ العربي التقليدي. أضف إلى ذلك تعقد الشكل الفني الذي يكتب به الشاعر الحديث، ما يتطلّب من المتلقي نوعاً من التمرّس. لكن النظام التعليمي الراهن لا يشجع على مثل هذه الدربة أو حتى على المتابعة. وأعتقد أن اشكالية التلقي ستزداد تعقيداً في المستقبل، طالما ازداد تخصص الشعر الحديث واستغراقه في اتجاهات فنية جديدة، واجتراحه تجارب اجتماعية أو تعبيرية أخرى.
كما اشير إلى تبدّل دور الشاعر كمعبّر عن مجتمعه او قبيلته كما كان في السابق. ثم ان طبيعة التجربة الحديثة تجعل من الصعب وصولها إلى المتلقي العادي. لنتصوّر شاعراً حديثاً يتكلم عن تجربة الموت، فالموت عنده سيأخذ بعدا فلسفياً بحكم التراكم الثقافي لديه، ولا اعتقد أن ذلك سيكون بمتناول قارئ متوسط الثقافة.
- محمد الدميني: الحاجة إلى النص الشعري تتضاءل الآن. هناك فنون عدّة دخلت في مجابهة مباشرة مع فن الشعر كما عرفه التراث العربي. والقراء المستهدفون الآن هم النخبة، ولكن هؤلاء متنوعون ومتقلبون وكثيرو التطلب. وحين "يتعب" واحدهم من ملاحقة هذه النصوص يتوقف عند حد معين، في حين أن النصوص تتجاوز نفسها ولغتها ومرئياتها وعلاقتها بالزمن. والقارئ عندنا لا يزال يعاني من كسر كبير في تلقيه، ولا يشعر انه يتعامل مع النص الجديد كمعوض عن هذا الكسر.
- حسن السبع: المتلقي العادي الآن لا يفهم ولا يتواصل حتى مع القصيدة التقليدية او العمودية. وحتى المتلقي النخبوي يجد صعوبة في كثير من الاحيان امام تشوش النص - ولا أستثني التقليدية من هذا النص الحديث. فالمشكلة تتمثل في نزعة بعض النصوص إلى الانغلاق على ذاتها، وعدم قدرة المتلقي النخبوي نفسه على التواصل معها. لذا اتفق مع كثير من الآراء المطروحة حول لاجماهيرية النص الشعري.
الوسط: تحدثتم جميعاً عن مسؤولية المبدعين، لكن العملية النقدية هي الأخرى، متورّطة في تلك القطيعة. هل صحيح أن النقد تخلّف عن مواكبة حركة الابداع الشعري؟ وما أسباب مثل هذا التقصير في حال وجوده؟
- سعد البازعي: شكوى المبدعين من النقد لا تخلو من وجاهة. فلا شك أن النقد لا يواكب الانتاج الأدبي لأسباب عدّة، منها أن الانتاج الأدبي يفوق الانتاج النقدي على مستوى الكمّ. ومن ناحية ثانية تختلف العملية النقدية عن العملية الابداعية في انها تالية لها زمنياً، وهي في حاجة إلى التأمل والقراءة قبل تناول النص. وما اقوله لا ينسحب على كل أنواع النقد، بل على نوع واحد فقط. هناك النقد الاكاديمي الذي يقوم على البحث والدراسة المتأنية ومكانه عادة في الدوريات العلمية والكليّات، ثم النقد الصحافي الذي يقدم ردّ فعل سريعاً على النتاج الأدبي، وهو ذات فائدة أكيدة إنّما يصعب الركون إلى نتائجه على المدى الطويل.
وهناك أخيراً نقد وسيط يمزج بين النوعين السابقين. وفي ظني أن الكتاب يتطلعون إلى هذا النوع من النقد، لأنه يوحي بالثقة أكثر من النقد الصحافي، ولأنّه أقل بروداً وصرامة وبطءاً من النقد الاكاديمي. لكنّ النقّاد المنتمين إلى هذا الاتجاه قلّة، يتطلّب عملهم شيئاً من التأنّي والتريّث. ومن الطبيعي ألا يتمكنوا من مواكبة كل ما يكتب، على الرغم من كونهم أكثر حماسة لمتابعة الجديد من زملائهم الملتزمين بالمعايير الأكاديمية.
- عبدالله الغذامي: أعتقد أن المبدعين محقّون، بمعنى ما، في كلامهم على تقصير النقد. فمواكبة النقد للقصيدة الحديثة بوضعها الراهن، لا تصل إلى المستوى الذي عرفته في الثمانينات حيث نشطنا بشكل ملحوظ، على مستوى التفاعل الفكري والجمالي مع القصيدة الحديثة. ولعلّ سبب انحسار الزخم في التفاعل، يكمن في أن الناقد نفسه لا يستثار إلا لأسباب خاصة به. بمعنى آخر، الجودة الابداعية وحدها لا تكفي، وإنما المطلوب نص استثنائي يلفت نظر الناقد: النص الذي يتجاوز زمنه ويقدّم شيئاً مختلفاً، بصورة غير متوقعة.
لا بدّ أن يحمل النصّ إضافة ما، أن يقدّم شيئاً مختلفاً، ولو أقل جودة من سابقه. لا بدّ للنصّ أن يفاجئك، أن يتحدّاك، أن يثيرك، أن يستفزّك، لكي تغوص فيه طارحاً أسئلة جديدة، مجرّباً نظريتك ومنهجك.
- سعيد السريحي: علينا أن نحدد معنى "عدم المواكبة": هل يتعلّق بالاطار الذي تنبثق منه القصيدة الحديثة، أم أن المقصود هو عدم متابعة النصوص الجديدة؟ علينا بدءاً القول إن النقد لعب دوراً فعالاً في مواكبة التنظير الفكري والثقافي الذي يقف خلف القصيدة المعاصرة. وقد لا يكون لعب الدور نفسه لجهة متابعة النصوص التي تعبّر عن تلك النظرية. وهنا أود التذكير بأن مشكلة النقد أن ممارسيه فئة تكاد تكون خاصة الخاصة، إذا قارناها بعدد المبدعين.
مهمة الناقد أكثر تشعباً من ملاحقة النصوص المنتجة. وما يمكن أن يقال حول نص ما، مرتبطاً بمدى انطواء هذا النص على اشكالية، وهي حالة نادرة في الساحة المحلية اليوم. إذ نقع، في اطار النصّ الحديث، على تجارب كثيرة تقع في فخّ "عمودية جديدة". لذلك انشغلت الحركة النقدية لدينا في متابعة النصوص التأصيلية للحركة الشعرية في السعودية. أما النصوص التي تلت أعمال الجيل الاول، وعلى رغم كونها أكثر اتقاناً ربّما مما سبقها، فلم تعد قادرة على استفزاز الناقد. هذا هو على الأرجح التفسير الأنسب لتراجع النقاد عن مواكبة الانتاج الجديد، مفضّلين التفرّغ للمسألة النظرية البحتة، أو لإعادة قراءة الموروث.
فورة الثمانينات واستفزازيّة النص!
- فائز أبّا: مع بدايات الحركة الشعرية الحديثة عندنا، كان الناس بحاجة إلى جهد مواز ومواكبة آنية في تقديم هذا النص الحديث. ولا أحد يستطيع أن ينكر زخم المواكبة حينها. هناك من عمل جاهداً في شق الطرق الجديدة، ومن تكبّد المشقّات وسافر إلى أماكن بعيدة داخل البلاد أينما وجدت أمسية. والمواكبة "المدرسية" هذه مطلوبة في البداية، بهدف التأسيس لقضايا معرفية غائبة، وربما اعداد الجمهور وادخالها عالم القصيدة الحديثة.
لكن هل المطلوب من النقد ذلك النوع من المواكبة؟ أرى أنّها لم تعد مهمة النقد على الاطلاق، فعليه أن يتتبع هذه التيارات وأن ينظّر لها. وهذه المهمّة قد لا تأتي متزامنة مع اللحظة الابداعية. هذا في ما يتعلّق بالنقد كممارسة شرعية ميدانية فوق الساحة الادبية. وهناك مستوى أرقى من النقد: المستوى الاكاديمي. وللأسف عندما تطلق صفة "الأكاديمية" على ناقد معيّن، يعتبر أنّك تقصد الاساءة إلىه! في حين أن يحتلّ أرقى المواقع، بحكم اشتغاله على النظرية نفسها، وعلى تقريبها من الممارسة. وهذا الخلط بين الاختصاصات والتوجّهات هو الذي شلّ النشاط النقدي، وأدّى إلى الكلام على عدم المواكبة النقدية للنص الحديث.
- هاشم الجحدلي: ربما نتحفظ جميعاً على كلمة "مواكبة"، لكن المقصود هو عدم متابعة النصوص. فمثلما يشتغل الشاعر على النص، يشتغل الناقد بالضرورة على النظرية. لكنّ النظرية أصلاً لا يمكن سوى أن تستند إلى الواقع، وهذا ما يقودها باتجاه النص الشعري. وبالتالي فإن النظرية ليست مجردة. بعد مرحلة متابعة للنصوص، عاد النقاد إلى الماضي بمناهجهم الحديثة وغير الحديثة، وهذا مبرر له أكاديمياً. ولكن اهماله للنصوص التي توازيها غير مبرّر.
- علي الدميني: لا نستطيع أن نقارن بين مرحلة الثمانينات، وبين ما نعيشه الآن. شهدت الثمانينات انتاجاً نوعياً في حين أن النقاد المتمكنين كانوا قلة، ولكن تلك المرحلة أدّت إلى شيء من التراكم الذي أفرز عدداً كبيراً من النقاد مثل الغذامي، السريحي، البازعي، معجب الزهراني، وسواهم من الاسماء المتميزة. لحظة انفجار من الطبيعي أن يرافقها شغف وطموح ورغبة في تحقيق الذات واثبات الحضور. كان على الناقد اولاً أن يثبت أنّه موجود، وهذا ما يفسّر التوجه التطبيقي.
لكنّني لا أعتقد أن تلك المرحلة تصلح كمقياس لدرجة اهتمام الحركة النقدية بالابداع. كانت مرحلة لها ظروفها، تجاوزناها الآن وهدأت الامور. بل اننا دخلنا منذ 1990 مفترق طرق جديداً تَرافق مع تغير مفاهيم كثيرة في العالم ومع انتهاء الايديولوجيا. والناقد الذي يرتبط نشاطه بشكل عام برؤية فلسفية، يعيد الآن النظر في مكوناته الفكرية ومراجعه وقناعاته وذوقه. أضف إلى ذلك أن هناك أسماء شعرية غابت عن ساحة الابداع.
- حسن السبع: مقولة عجز النص الابداعي الحديث عن استفزاز الناقد ليست حكماً مطلقاً. فالنقاد لا يستطيعون "متابعة" كل الاعمال الابداعية المطروحة على الساحة، ولهذا فإن مسألة اسفزازية النص لا تكفي لتفسير التقصير. كما يجب الا نفترض أن كل النقاد لا يكتبون إلا عن النصّ الذي يستفزّهم. هناك أعمال كثيرة من دون المستوى المطلوب تناولها الناقد، وترك اعمالاً ابداعية جيدة. فإما أن هذا الناقد غير قادر على متابعة كل ما يصدر في الساحة الادبية، أو أن هناك صلة معينة تربطه بالمبدع. ما يحدث هو أننا نعيش حالة هرولة ثقافية، والقارئ لا يتسع وقته للاطلاع على المقالات النقدية. وهذه الحقيقة تنطبق أيضاً على القراء النخبويين.
- محمد الدميني: إذا كان المبدع يعاني من غياب الناقد، والناقد يعاني من غياب المبدع، فنحن حقاً أمام جوهر الاشكالية. كأن هناك منطقة معزولة بين الطرفين متاحة لكل التفسيرات والاحتمالات، وهنا في اعتقادي يكمن عُمق الازمة بين الابداع والنقد. عبدالله الغذامي أحاط بجوهر المسألة في طرحه، حين حاول الدخول إلى هذه المنطقة المظلمة في العلاقة بين الطرفين. الناقد معزول، والمبدع ينتج أيضاً في معزل عن الناقد، وهذا الوضع اشكالي في حدّ ذاته. لا بدّ إذاً من خلق علاقة معينة قائمة على نوع من التجاذب بين الطرفين، والا ما الذي نتوخّاه جميعاً من الأدب؟
تلك القطيعة تشير إلى وجود عزلة اجتماعية. وربّما كانت تجارب النقاد لدينا حققت شوطاً معيناً، فوجد هؤلاء أنفسهم في عزلة عن القارئ. بل أن هذا الأخير بدأ يهاجم النقد في فترات معينة انطلاقاً من الرؤية التقليدية التي تعتبر الناقد وسيطاً بين القارئ والنص الادبي، وأعتقد أن سبب هذا الهجوم هو أن الناقد بلغته المتعالية أحياناً، واستطراداته ومصطلحاته، عمّق الهوة بين المبدع والمتلقي. ثمّ هاجم الناقد القارئ واتّهمه بالسطحية.
هكذا هوجم الشعراء في منتصف الطريق بين هذا وذاك، وعليه توقف كثير من النقاد عن المتابعة، أو بدأوا في اعادة النظر بالأشياء، وبدأ معظمهم يرجعون إلى الماضي. لذلك نجد اليوم تنافساً عجيباً في تحليل ودراسة وتشريح نصوص من التراث. وهناك أيضاً، كما أشار البعض قبل قليل، بين النقاد من لم يستوعب قصائد التفعيلة ذاتها، فكيف بقصائد النثر؟! وهنا توجد ردّة مركبة يشترك فيها النقاد المحدثون الذين وقفوا على آخر التيارات والمدارس، مع النقاد التقليديين الذين لا يعرفون التعامل مع الراهن إلا عبر منظار الماضي. هل النصوص الحديثة عاجزة عن الادهاش؟ أنا لا أعتقد أن مجتمعنا توقف عن انتاج نصوص جديدة بكل اشكالها. تلك النصوص موجودة وفاعلة، سواء تعامل معها الناقد أم تجاهلها...
إنسحاب النقاد؟
- عبدالرؤوف الغزال: النقاد قلة، قياساً إلى عدد الشعراء. ومعظم الموجودين منهم في الساحة هم أكاديميون وباحثون، ساعدتهم على خوض النقد التطبيقي عوامل مختلفة منها النوادي الأدبية، والصحافة المحلية. واعتقد ان دخولهم المجال لم يكن عن رغبة منهم، بقدر ما كان مساهمة او تكليفاً. وماحدث بعد ذلك من هجوم على الحداثة في الساحة المحلية أوجد نوعاً من الردة لدى النقاد. فمعظم هؤلاء مرتبط بمؤسسات أكاديمية لها ظروفها وأنظمتها الخاصة ومعاييرها الاخلاقية ومصداقيتها التعليمية. مادفع كثيرين إلى الانسحاب، حتّى لا يتّهموا بأنهم مع التجارب الحديثة التي هوجمت لأنها "ضد قيم المجتمع وتراثه". لكن قلة استمرت، والقليل من هؤلاء يحاول قراءة متعمقة لما يطرحه الجيل الجديد. وليس عندنا ناقد يستطيع أن يكون ناقداً تطبيقياً، وباحثاً للظاهرة الأدبية الموجودة الآن في السعودية. فالناقد الآن يتقمص دور الصحافي، مكتفياً بنقد جزئي للقصيدة. وأظنّ أن هذا الخطأ هو سبب عدم الفرز الواضح في المواكبة النقدية. وأعتقد أن النقاد يلعبون دوراً كبيراً في تردد أو انطلاق التجربة الحديثة.
- غسان الخنيزي: إذا اتفقنا على وجود قطيعة بين الفعالية النقدية والفعالية الشعرية، ففي تصوري أن أهم أسبابها افتقادنا أهم مقومات الحركة الادبية. فكيف ننسى غياب الدوريات الشعرية والنقدية المنتظمة - وان وجد بعضها أخيراً؟ دعك من عدم وجود القنوات الادبية الفعالة والفاعلة التي تربط بين الادباء والنقاد والقرّاء، وتوفر المواكبة وامكانية التواصل وصيانة هذا التواصل، وتأمين التراكم... وأتصوّر أن الحياة الأدبية لدينا تشكو من هذا النقص الفادح، ما يعيق النظرة الشمولية والتاريخية. حتى اننا في بعض اللحظات قد نشكك في وجود حركة ادبية وابداعية متواصلة في الزمان والمكان. وهناك دائماً تقاطعات في الظواهر الأدبية التي شهدناها خلال العقدين الماضيين على الاقل.
- سعد الحميدين: النقد على ندرته موجود. والنصوص التي كانت جيدة وجديدة استنفرت بعض النقاد فانجذبوا اليها واعطوها ما تستحق من الدراسة والاضاءة. ولا تزال آثار ذلك التفاعل باقية، من زمن كانت فيه نصوص شعرية جيدة. حتى أن هناك بين النقاد من ندم على فعلته، واعتبر أن رهاناته على هذا الشاعر أو ذاك خاسرة، فأخذ يعيد حساباته!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.