من الواضح أن كلمة «سريرة» تفيد غير الظاهر لكنها لا تحدد إذا ما كان هذا الكامن إيجابيا وسلبيا إلا بعد أن يقترن بها وصف يعرّفها «طيب السريرة» أو «خبيث السريرة»، لكن كيف يمكن أن نصف المعاني الكامنة في الأشياء بالسريرة؟ يحاول بعض المهتمين بالمصطلح وتطويره، خصوصا في مجال العمران نحت مصطلحات جديدة ذات جذور عربية أصيلة، خصوصا إذا ما كانت لها ارتباط قرآني، فكرة «النظرية العمرانية في القرآن الكريم، تسعى إلى تبنى منهج للتفكير لا يتبع لأي ثقافة خارج الثقافة العربية/ الإسلامية، ولا يعني ذلك أن هذه الفكرة وصلت مرحلة النضج الذي يجعلنا نقدمها على أنها «نظرية» نقدية متكاملة في المصطلح العمراني، فلا يزال الطريق طويلا، قبل أيام توقفت عند الآية «يوم تبلى السرائر» (الطارق: 9)، ولفت انتباهي الجدل الواسع حول تعريف المعنى الكامن والصورة الذهنية غير المنظورة، إذ يبدو أن مفهوم «السريرة» وهو مصطلح عميق ومتفرد يشير إلى ما وراء الصورة المنظورة والمعنى الظاهر إلى تلك المعاني التي يضمرها الناس في نفوسهم وتوجه سلوكهم دون أن يتحدثوا عنها بشكل ظاهر. من الواضح أن كلمة «سريرة» تفيد غير الظاهر لكنها لا تحدد إذا ما كان هذا الكامن إيجابيا وسلبيا إلا بعد أن يقترن بها وصف يعرّفها «طيب السريرة» أو «خبيث السريرة»، لكن كيف يمكن أن نصف المعاني الكامنة في الأشياء بالسريرة؟ يمكن أن نبدأ من أن لكل شيء «سر» خاص به، مختبئ داخله يقول الله تعالى «يعلم السر وأخفى» (طه: 7)، فالله يعلم الأسرار وما هو أخفى من الأسرار، وغالبا ما تكون المعاني التي تختزنها الأشياء ومن ضمنها العمارة هي من صنع الانسان وجزء من شيفرتهم الثقافية، وبالتالي يمكن أن نرى أن أحد الأدوار التي تقوم بها «السريرة» هو عملها كآلية فطرية يعطي بها الناس الأشياء المعاني، وهذه المعاني يصعب تفكيكها وفهمها من خارج المجموعة البشرية التي طورتها، هذا يجعلنا نقول إن لكل مجموعة بشرية «سريرة» تميزهم وتصنع شخصياتهم، سواء كانت إيجابية أم سلبية. المصطلح القرآني يشير إلى أن الله هو الذي يعلم السر، لكنه لا يحصره في علم الله فقط، فكما هو معروف أن الأسرار تكون حصر بين مجموعة من الناس، وإن إفشاءها يلغي سترها، لأن ستر المعنى هو أساس السريرة وحصر القدرة على كشف السرير على مجموعة محدودة من الناس في مجتمع محدد هو إحدى آليات تطوير التقاليد الكامنة ذات المعاني العميقة المُشفّرة التي لا يستطيع كشفها أحد من خارج هذه المجموعة. ثمة اتفاق على أن هناك عالم للغيب وعالم للشهادة، وسوف نربط السريرة بعالم الغيب، لكن هناك درجات لعلم الغيب وسوف نفرق بين نوعين من علم الغيب، الأول علم الغيب المستقبلي المطلق، وهذا لا يعلمه إلا الله، ونحن البشر طورنا ما سميناه «علم استشراف المستقبل» أي التنبؤ بالمستقبل بناء على معطيات ودراسات قد تصيب وقد تخيب لكنها لا تدخل في علم الغيب المطلق، النوع الثاني هو علم الغيب الحاضر أو المعيش، وهو الذي يتقاطع مع السريرة ومع تطور الشيفرات الكامنة غير المنظورة التي تخص مجتمعات محددة دون غيرها، هذا العلم ليس تنبؤا ولا يتقاطع مع معرفة ما سيحدث في المستقبل، بل هو مجموعة من المعاني الكامنة التي تصنع مجموعة انساق ثقافية على مستوى المجموعات البشرية لكنها في نفس الوقت علم فردي مرتبط بسريرة الأفراد و»نياتهم» ومعادنهم ومواقفهم من العالم الذي يعيشون فيه، هم الذين يصنعون المعاني وهم الذين يفكون شيفراتها وهم الذين يحددون شخصية المجتمع وطبيعة تعامله مع المجتمعات الأخرى، هم الذين يعطون الأشياء معانيها ويستخدمونها كأدوات للتخاطب وهم الذين يصنعون الأنماط الثقافية التي تجعل من هذه اللغة الصامتة المرتبطة بالسريرة مفهومة. يمكن أن أدّعي أن «السريرة» تحث على الخيال، وتحفز على الابتكار والإبداع، وسوف أربط بين المصطلحين من خلال فعل «الحركة»، فلا يوجد خيال دون حركة ودون تجدد، ويبدو أن السريرة هي ما يكمن في النفس لتحفيز فعل الخيال، عالم النفس السويسري «كارل يونغ» ذكر أن كثير من الأحلام يحولها البشر إلى منتج فني خيالي، وفي اعتقادي أن كثير من الأحلام هي نتيجة للمخزون الضاغط للسريرة، سوف أدّعي كذلك أن «السريرة» هي دائما في حالة حركة، أي أنه لا يوجد سريرة ساكنة بل هي جزء من الفعل الحياتي للبشر، يعيشون الأحداث وتتغير سرائرهم (ليس بالمعني الإيجابي والسلبي فقط بل بمحتوى هذه السرائر وما تحمله من مخزون ضخم يغذي الخيال)، يجب أن نذكر بوضوح أن السريرة والخيال لا يمكن فهمهما في الحالة «السكونية» فلا يوجد سريرة ساكنة ولا يوجد خيال ساكن. السؤال الأهم هو: هل يمكن أن نستبدل جملة «المعنى الكامن للأشياء» ب «سريرة الأشياء»؟ أو سريرة العمارة بدلا من مصطلح «ما وراء العمارة» Beyond Architecture، في الحقيقة وجدت أن المصطلحات ذات الجذور القرآنية عميقة في دلالاتها حتى لو وظفت في مجالات مادية وبصرية، فلو استخدمت مصطلح «سريرة العمارة الحديثة» فهذا يعني الغوص في مكوناتها الإيجابية والسلبية وفهم نظامها الأخلاقي والإيحاءات الثقافية التي تقدمها هذه العمارة ويمكن الحكم عليها بالقول إنها «عمارة ذات سريرة طيبة أو خبيثة». ونفس الشيء ينطبق على العمارة التاريخية أو «سريرة العمارة السعودية»، لكن المصطلح لا يقتصر فقط على الكشف عن المعاني التي تحدد البنية الجوهرية لأي عمارة، بل أنه مصطلح يمتد إلى كشف منابع الخيال لأي عمارة أو فن أو ثقافة.