لا يمكن أن يكون هناك "أمة" دون وجود ترابط وتعارف اجتماعي، واندماج بين الثقافات المختلفة التي يمتد لها الإسلام، وهي في الوقت الراهن كل الثقافات الإنسانية، إذاً: كيف يتحقق مفهوم الأمة معمارياً؟، وهذا سؤال عميق لم يُفكّر فيه سابقاً، إذ إننا عندما نقول إن "المسجد يجمع العالم" أو كما هو شعار "المسجد: مبنى عابر للثقافات".. تنبه المعمار البحريني "علي لاري" إلى مقدرة عمارة المسجد المعاصرة على التعبير عن مفهوم "الأمة" أثناء مرحلة التحكيم النهائية لمساجد الدورة الرابعة في الكويت (نوفمبر 2022م)، وهو أحد المراجعين التقنيين الذين زاروا المساجد في كل من الهند وبنغلاديش، وعمل دراسة عليها وقدمها أمام لجنة التحكيم، قال: "أن ما تقوم به جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد هو صناعة مفهوم جديد ومعاصر لمصطلح الأمة من خلال العمارة"، يبدو أن ملاحظة "لاري" نابعة من تجربته أثناء زيارة المساجد المخصصة له التي كانت ضمن القائمة القصيرة للجائزة، فزيارة المسجد في محيطه الاجتماعي والثقافي أعطاه تصورا مختلفا لفكرة المسجد التي تحث على التعارف والترابط على مستوى البشر كافة، ويظهر أن مصطلح "الأمة" بمفهومه المعماري الذي يمثله المسجد بدأ يتشكل في ذهنه، فالمسجد كما شعر به "يجمع العالم"، وهذا هو أساس مصطلح "لتعارفوا" القرآني، فكما أن الله خلقنا من أصل واحد وجعلنا شعوبا وثقافات وقبائل مختلفة إلا أن الهدف هو التواصل والتعارف، ومفهوم "الأمة الواحدة" يتجسد في صورته المعمارية عبر المسجد، يقول الله تعالى: "وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون: 52). من المتفق عليه أن أي ترابط اجتماعي يقتضي وجود الدافع لاجتماع الناس وتقاطعهم على المستوى الحضري ووجود المصالح المشتركة بينهم. لقد تنبه المسلمون لأهمية هذا التوازن بين فضاء المسجد وبين الفضاء المحيط به في وقت مبكر، فأصبح المسجد هو النواة التي تُبنى حولها المدينة وظهرت علاقة متينة وأساسية عبر العصور بين الفضاء المقدس وبين الفضاء الدنيوي وشكله المعماري، في عرف كثير من الباحثين أنها النظرية الأساسية التي قامت عليها جميع المدن في الحضارة الإسلامية، وهي نظرية تركز على القيمة الاجتماعية العالية التي يقدمها المسجد للمحيط العمراني، فالرابطة الاجتماعية تنشأ من النواة وتمتد إلى الأطراف. تتشكل ثقافة "لتعارفوا" بشكل شامل في قلب المدينة بشكل أسبوعي مُلزم، وتظهر صلاة الجمعة كمجال تعليمي ديني وثقافي وسياسي، لكن قبل ذلك تكون الخلايا الاجتماعية قد تشكلت في مساجد الصوات الخمس التي تمثل جوهر فلسفة "لتعارفوا" وتصنع ما يمكن تسميته "الرابطة الأسرية" التي تدمج مجموعة بشرية متجانسة على المستوى المكاني والثقافي وتساهم في خلق قيمهم واعرافهم وتحدد تقاليدهم اليومية. العلاقات الاجتماعية التراتبية (من الجماعية الصغيرة إلى المجتمع الكبير) أصابها الخلل نتيجة لانفصال المسجد، على مستوى التشغيل والارتباط والإحساس بالمسؤولية، عند المستخدمين، فأصبح مفهوم "جماعة المسجد" لا يعني الشيء الكثير، كما في السابق، وتشتت مفهوم الجماعة الكبيرة مع تعدد الجوامع وزيادة عددها وتفكك البنية الحضرية المحيطة بتلك الجوامع. ولعلنا نربط هنا الشعور الذي وصل للمعمار البحريني "علي لاري" بأن فكرة جائزة المساجد العالمية يمكن أن تذكر العالم بمفهوم "الأمة" الذي صار يتراجع بشكل واضح في الآونة الأخيرة. ولأنه لا يمكن أن يكون هناك "أمة" دون وجود ترابط وتعارف اجتماعي واندماج بين الثقافات المختلفة التي يمتد لها الإسلام، وهي في الوقت الراهن كل الثقافات الإنسانية. إذا: كيف يتحقق مفهوم الأمة معماريا؟ وهذا سؤال عميق لم يُفكّر فيه سابقا، إذ أننا عندما نقول إن "المسجد يجمع العالم" أو كما هو شعار "المسجد: مبنى عابر للثقافات" الذي تبناه المؤتمر العالمي الثالث لعمارة المساجد الذي أقيم في الكويت بين 14 إلى 16 نوفمبر 2022م، يظهر البعد الكوني الذي يمكن أن يعبر عنه المسجد كأحد أسرع المباني انتشارا في العالم، علما بأن الانتشار وحده لا يمكن أن يصنع مفهوم الأمة، وإن كان يخلق كثيرا من التحديات الثقافية والعمرانية في جغرافيات مختلفة من العالم. لنبدأ من كون أن العمارة لديها قدرة فائقة لنقل الرسائل الثقافية بلغة صامتة وبثها على نطاق واسع مع القدرة على المحافظة على المعاني الكامنة في المبنى حتى مع تغير الأشكال التي قد تقترن بهذا المبنى، كما هو حال المسجد. وإذا ما عدنا إلى جوهر وظيفة المسجد وكونه فضاء للتوازن بين الديني والدنيوي، وأنه كان محركا للترابط والتجانس المجتمعي وتراتبيات للعلاقات الاجتماعية التي تتوسع باستمرار سوف نتأكد من أن المعاني الكامنة التي يختزنها المسجد أكبر وأهم بكثير من المعاني الظاهرة التي يعبر عنها شكله المعماري، وبالتالي نحن أمام مكان مكتظ بالمعاني والرموز وقادر على توصيل هذه المعاني بسهولة للمجتمع المحيط به مهما كانت معتقداته. عندما نقول إن عمارة المسجد بكل امتداداتها الجغرافية والثقافية، يمكن أن توحي بمفهوم الأمة فنحن هنا نتحدث عن عمارة "فوق وطنية" تعبر عن مجموعة من العناصر المشتركة التي تجمع قطاع كبير من الأجناس البشرية حول فكرة واحدة. مبدئيا يمكن القبول بهذا المصطلح، خصوصا أن المسجد تاريخيا، وحتى في الوقت المعاصر، حقق اختراق عميق على مستوى الثقافات المحلية ونقل تلك الثقافات على المستوى البصري وكذلك على مستوى تفاصيل استخدام المسجد والتعبير عن الثقافات والتصورات المحلية الخاصة. فإذا اتفقنا أنه يمكننا أن نطلق على عمارة المسجد "عمارة الأمة" فماذا نتوقع أن يميز هذه العمارة؟.