محاولة فهم غموض العقل ومفهومه من الناحية الفلسفية والدينية وعلم النفس والعلوم المعرفية الأخرى وربطها بما ورد في القران الكريم تقودنا بشكل مباشر إلى مسميات ومراتب العقل التي لا يمكن فصلها عن بعضها حيث إن بعضها يتكامل مع البعض الآخر.. يعرف العقل بالعديد من المسميات وكل مسمى من تلك الأسماء يحتوي وظيفة معينة وجانبا معرفيا أو عاطفيا وغيره من الجوانب الأخرى وخلال قراءة القران (ضمن منهجية "النظرية العمرانية في القرآن الكريم" التي أعمل عليها منذ سنوات) تبين أن يوجد العديد من مسميات العقل في القران الكريم حيث ينفرد كتاب الله بالإشارة إلى العقل وإلى خصائصه المميزة، فتلك الخصائص مثل الوعي والخيال والإدراك والتفكير والحكمة والذاكرة وغيرها من الخصائص كانت مذكورة في كثير من آيات القران الكريم، وهي خصائص في جوهرها تخوض في مفهومي: عالمي الشهادة والغيب، فمن خلال التدبر في آيات القران تبين أن بعض مراتب أو مسميات العقل متعلقة ببعض العوالم وبعضها متعلق بالبرزخ الذي يكون بين عالمي الشهادة والغيب، الأفكار التي يتطرق لها هذا المقال هي جزء من حوار طويل بين طلبة الدكتوراة في كلية العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل. لو حاولنا أن نفهم معنى العقل في اللغة العربية لوجدنا أنه يرجع إلى: تعقَّل الرَّجلُ: أي تفكّر وتدبَّر، وقد فهم وأدرك، والتعقل من مستويات المعرفة والتفكر ويأتي معناها أيضاً التَعَقَّلَ ظَاهِرِيّاً: في تكلف العقل ويقال إن العقل نقيض الجهل، إذا عرف ما كان لا يعرفه أو يجهله من قبل وجمع العقل عقول، وتأتي أيضا بمسميات أخرى مثل رجل عاقل وقوم عقلاء. وأشخاص عاقلون، ورجل عقول وذلك يعني حسن الفهم وافر العقل وحسن التدبير. في واقع الأمر أن محاولة فهم غموض العقل ومفهومه من الناحية الفلسفية والدينية وعلم النفس والعلوم المعرفية الأخرى وربطها بما ورد في القران الكريم تقودنا بشكل مباشر إلى مسميات ومراتب العقل التي لا يمكن فصلها عن بعضها حيث إن بعضها يتكامل مع البعض الآخر. وردت كلمةُ الغيب في القرآن الكريم 53 مرة، وهي تؤكِّد على أن الغيب المطلق لا يعلمُه إلا الله، وأن مِن صفات المؤمنين المتقين الإيمان بالغيب، حيث يعرف أصل الكلمة لغة على تستر الشيء عن العيون واصطلاحاً الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس والحدس ولا تقتضيه بديهة العقل. فالغيب كما يقول الله تعالى مختص بالله سبحانه وتعالى " وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِين" وحيث إنه يوجد خمسة مفاتيح للغيب لا يعلمها إلا الله كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله. في اعتقادي أن "الغيب" يتحدى العقل بشكل واضح، فمن طبيعة عمل العقل الكشف عن الأشياء وفهمها واحتواء معناها وتوقعها بينما يرتكز مفهوم الغيب على ستر الشيء واستحالة كشفه، ويبدو هنا أن سر تطور العلوم منذ بدء الخليقة هو هذا التحدي أو هذه المواجهة المباشرة بين عالم الغيب وعالم العقل أو الشهادة. أذكر أن الزميل الدكتور عبدالله الحصين أشار لهذه الفكرة من الناحية المعمارية، فكما هو معروف أن العمارة تنتمى إلى عالم الشهادة فهي من المعقولات والمحسوسات، لكنها في نفس الوقت تمتد إلى ما وراء العقل، إلى الكامن في الأشياء الذي يصعب تحديده بشكل قطعي، وتظهر المنطقة الفاصلة بين الغيب والشهادة كفضاء لطرح الأسئلة المعرفية الأساسية التي تثيرها النظرية العمرانية في القران الكريم. يميز "باسكال" بين نوعين من العقول: العقل الهندسي وهو العقل الذي يتعلق بالمبادئ الملموسة، ولكنه بعيد جدا عن الاستعمال العادي وأن المبادئ تكون واضحة كاملة عليه. ولا بد أن يكون العقل زائفا إن كان لا يقدر على البرهنة، ابتداء من المبادئ الكبيرة إلى حد أنه من المستحيل أن يعقلها، أما العقل اللطيف فهو العقل المستخدم والشائع فإن المبادئ موجودة في الاستعمال العادي وماثلة أمام أعين جميع الناس، ولا بد أن يرى كل المبادئ الرئيسة، وأن يكون مستقيم العقل حتى لا تبرهن برهنة زائفة ابتداء من مبادئ معلومة، يرى ديكارت بأنه "يكفي أن أوجه انتباهي، كي أدرك. ما لا نهاية لها، من الخصائص المتعلقة بالإعداد والأشكال، والحركات، وأشياء أخرى متشابهة تظهر حقيقتها بينة، أي أنني أدرك أشياء كانت من قبل في عقلي". وبما أن الغيب غير محسوس وأن عالم الشهادة أيضا يحتوي على بعض الغيب حيث إن أدوات معرفة الغيب تنطلق من منهج المدركات الحسية متجاوزة الإطار المادي المحدود إلى البحث عن الوصول للحقيقة خارج الإطار المادي المباشر، وهو ما يخلص إليه القرآن حيث يمكن أن نصنف الغيب إلى: غيب نسبي مختص لسائر البشر وغيب مطلق مختص لله تعالى. والنظرية العمرانية في القران، بالإضافة إلى كونها تخاطب عالم الشهادة كذلك هي تخاطب الغيب النسبي الخاص بالبشرية وتدفع بهم إلى مجالات معرفية تتجاوز المجالات المباشرة.