عرفت مكة والحج معظم سنوات حياتي، وحججت ما شاء الله لي أن أحج، إذ عشت شطرا طويلا من حياتي في أم القرى، وشهدت تلك الأرجل العارية والوجوه المنهكة التي تصل إلى الحج بعد فتحها لصُرر أموالها التي جمعتها في عقود طويلة لمعانقة الملتزم وتقبيل الحجر والوقوف تضرعا على جبل عرفات. ورأيت أولئك الذين أتوا وهم في آخر رمق من حياتهم في سباق مع المنية، لا يدرون أيهما يسبق الفريضة أم قضاء الله وقدره بعد أن أمضوا آخر سنين عمرهم في الدعاء لله في أن يختموا حياتهم بفريضة الحج، فرأيناهم في عرفات وعند الملتزم، ورأينا العبرات والدموع تنهمر والأيدي مرفوعة لله خشوعا وتضرعا طلبا للمغفرة، وشاهدنا وداعهم للبيت اغتباطا باللحظة، وحزنا على الفراق. التقيت بكثير من هؤلاء الحجاج كصحافي أثناء تغطياتي للحج في تلك السنوات، فسمعت منهم قصصا حزينة ومبكية تدعوا لتأمل عظم هذه الفريضة في نفوسهم، بعد أن قضوا سنوات طويلة استعدادا لتلك اللحظة التي لا تأتي إلا مرة في العمر وهم يعدون العدة لها، بعد أن باع منهم من في الهند أبقاره، وباع من أفريقيا مزرعته، وباعت النساء حليهن. ومن بين أكثر من مليون حاج أو ضعف هذا العدد أحيانا كثيرة، نجد بينهم المريض والعجوز، وذوو الاحتياجات الخاصة، فضلا عن نساء وأطفال، جميعهم أعدت لهم سلطات الحج ما يحتاجونه، فمن بينهم عشرات يصابون بالجلطات والإغماءات، ومنهم من كان مريضا بحاجة لتدخل جراحي، ولكن المفاجأة أن جميع هؤلاء لا يفوتهم الحج مهما كانت حالتهم، بسبب جيش من الإسعافات، والمستشفيات المتنقلة التي جهزتها سلطات الحج، لنقلهم فيها بين المشاعر حتى يستكملوا فريضتهم بكل خشوع، دون أن يفوتهم أي ركن منها، بما في ذلك رمي الجمرات لمن استطاع، أو رميها عنه لعجزه. في هذه الأجواء والجهود الضخمة في مناسبة سنوية لا تتوقف، نجد في كل عام تحذيرات تبثها السلطات السعودية لأولئك الذين يأتون للحج، بغير نية الحج، بل لإفساد حج الآخرين، وزعزعة السكينة في قلوب الناس. وأكتب هذا، لخطورة المشاهد التي عشتها شابا صغيرا ورأيتها في حج 1987، الذي اعتدى فيه من يزعمون أنهم حجاجا على ضيوف الرحمن في الحادثة الشهيرة قتل فيها حجاج وأحرقت فيها سيارات ومساكن ومتاجر قرب الحرم، وفوق ذلك محاولة اقتحام الحرم المكي الشريف، وهي من أشنع الحوادث التي عاشها أهل مكة وحجاج بيت الله الحرام منذ حادثة جهيمان عام 1979. ومنذ ذلك الحين، عرفنا جميعا ما تمثله التحذيرات السعودية السنوية لمن يسعون إلى تعكير الحج في محاولاتهم العبث بأمن ضيوف الرحمن وإفساد الفريضة عليهم وتعكيرها بأي شكل كان أو تحت أي ذريعة، لأننا نرى سنويا، خاصة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بعض من يحاولون إفساد سكينة الشعيرة العظيمة بدعوات أو ممارسات تتصدى لها السلطات السعودية باستمرار، مرة بدعوى تحرير فلسطين، وأخرى بزعم التصدي للولايات المتحدة وإسرائيل، وأخرى لإسقاط نظام ما، ودون شك يعرف كل عاقل، أن ما من دعوة صادقة قط بين تلك الدعوات الضالة التي نعرف جميعا مصدرها والمراد منها ومن يروج لها.لكن عزاء النفس دوما، أن الحج في أيد أمينة وقوية، إذ يعرف الله أن يضع أماناته.