انقشعت السحب بعد هطول المطر، وظهرت شمس آذار بلونها الذهبي تتوسط السماء الزرقاء، وها نحن على أرصفة الشوارع نهم بمغادرة محطات السفر نحو وجهتنا التالية، وحقائب أجسادنا تسابق خطواتنا في اكتشاف المجهول والإبحار في دوامة وعينا الداخلي، إن روح الحياة وجوهرها، سفر وسفر وجسد مادي يتماهى في تفاصيل الروح يغيب ويرتحل باحثا عن مواطن سلامة.. ارتجاف عقارب الساعة، قطرات الجهد على جبين الغربة، أطياف من عيون البشر تركض نحو شرودها الحالم في اللقاء.. (وتقول لنفسك: سوف أرحل إلى بلاد أخرى.. إلى بحار أخرى.. لا أرض جديدة يا صديقي هناك.. ولا بحر جديدا.. فالمدينة ستتبعك.. وفي الشوارع نفسها سوف تنزلق من الشباب إلى الشيخوخة.. لا سفن هناك تجليك عن نفسك.. آه ألا ترى؟ للشاعر اليوناني كافناي. إن الرحلات هي حركتنا في دوامة الزمان والمكان، وتطواف لأرواحنا في عوالم الحياة، فنحمل أمتعة أرواحنا ومتاهات أفكارنا في حقائب أجسادنا فندخل ونخرج من عتبات الدهشة والحب واللذة، فتطفو أرواحنا في سماوات الترقب والتأمل، ويبدأ الكيان المادي للجسد يلتقط في حقائبه دهشة أصوات أطفال عابرة، صوت هديل الحمام ورفرفاته، ويصيخ لجرس علق على باب مكتبة في أحد الشوارع، وقع أقدام المارة العابرين والمسافرين، وقراءة لوجوه البشر ما بين فرح مغادر وأمل قادم وحزن نبيل انعكس في ظلال الشوارع. هكذا هو الإنسان في سفره طفلا حائرا يركض نحو دهشته، ويلتقط فرحه بيديه، ويصمت ليقول الكثير عندما تخذله قدرته على المضي قدما، ويكتفي بالمشاهدة عندما تضيق به السبل. لطالما كان السفر رحلة كونية للروح ومحطات للذكريات والرغبات والمعتقدات واللغة والطعام، فلدى كل شخص غربة ذاتية تجعله غريب في وجوده عن الأخر (تولد أروع لحظات السفر من الجمال والغرابة) روبرت بايرون. ولذا فإن الغربة قرينة السفر وبدونها يكاد ينتفي معناه، هي نافذة الحقيقة على الروح ومعراج الكائن البشري بها يختير موطن سموه، وانتمائه للأوطان، ويقع الإنسان على مقارناته بأشكالها البدائية في التنقل بين المدن ويعتصر الدهشة وتناقضات الجمال والتساؤل في أقدار الغيب والحاضر، فالمسافر الغريب يخاطب الناس بعاطفتهم وليس منطقهم وعقولهم، ويقترب من فهم وعيه الداخلي فهو صلته الحقيقية بين ذاته وواقعه. إن السفر يتعانق مع الفلسفة ويطرح أسئلة تثير العقل البشري، هل يمكننا أن نتعلم عن الحياة أشياء جديدة؟ هل التفكير من خلال أسفارنا يتيح لنا اكتشاف عمق ذواتنا؟ ومن هنا انكب الفلاسفة على دراسة أبعاد السفر وأثره على النفس الإنسانية برغم المقولة المشهورة، إن الفلاسفة لا يسافرون، فقد تخطى بعضهم واقعهم وأبحروا في رحلاتهم الاستكشافية، فقد شبه بيركلي السفر بقوله (متاهات الفلسفة المقفرة) ومونتين يخبرنا أن السفر (معرفة مكان وجودك) ونجد في كتابات العالم الجغرافي والرحالة سترابو أولئك الذين (يبحثون عن معنى الحياة في السفر). ولم تترك لنا غادة السمان من حيلة في كتابها (الجسد حقيبة السفر) حيث جعلتنا عالقون في تشكل نصوصها الأدبية المبهرة وعتباتها الدلالية ذات الجمال الإبداعي في رأس النص وفحواه، فأسقطتنا في فجوات الإغواء والتشويق والتحليل والشعور الكامل بذاتية التجربة التي عاشتها في أسفارها كأنها لأحدنا بدون جدل تقول: (إن الجسد ينهار وسط معركة رفضه ورفض الآخرين له بعد أن يحمل العقل رسالة غير اعتيادية وخارقة)، فوقعت رحلتها في يومها الأول بوجع نبت في محبرتها ولطخ بياض ورقتها بالسواد المهين ... كما قالت (إسرائيل) بعتبة نصية (يدعون: الشمس تشرق من إسرائيل) أعداء الإنسانية والحضارة العربية وهي حقيقة لا مفر منها ماثلة في واقعنا المعاصر بأبشع الجرائم والانتهاكات. وتطوف بنا بين روما بتماثيلها الفنية الرائعة التي توحي بهالة الجمال وغيرها من المدن بعتبة نصية بارعة (أعمد نفسي مركبا ليليا.. أو لؤلؤة الدهشة من خلال استدراجنا الى أعماق النص بتفاصيل بارعة.. فهذا هو سحر السفر قناعات وفكر وحرية فيالاختيارات. بل يشعرنا بأنه يمد جذورنا ويثبتها في أوطاننا، فهناك مجموعة من الذكريات في انتظارك لتصنعها فحلق بروحك واختر وجهتك، فأنا أرى الحصى يلمع على الأرض وحقيبتي تتأرجح بين يدي وهذه المدينة راسخة أمامي بشموخها الفاتن، نعم لقد عدت إلى الوطن.