"الفلسفة والشعر" كتاب جديد صدر حديثاً من خلال التعاون بين المعهد الثقافي الاسباني ثربانتس في القاهرة، وسلسلة "أوراق فلسفية" التابعة للجمعية الفلسفية في كلية الآداب جامعة القاهرة، تأليف الباحثة والمفكرة الإسبانية ماريا ثامبرانو، وترجمة محمد البخاري بن سيد المختار وكارلوس بارونا ناربيون، وتقديم احمد عبدالحليم عطية. يشير عطية في مقدمته إلى اهتمام المثقف العربي بالثقافة الاسبانية اتجه إلى الأدب أكثر من اتجاهه إلى الفلسفة الاسبانية، موضحاً أن ماريا ثامبرانو 1904 - 1991 هي تلميذة اورتيغا آي غاسيت، الفيلسوف وعالم الجمال والمناضل السياسي الإسباني المعاصر، وان لها أعمالاً منها: الإنسان والألوهية، أسبانيا الحلم والحقيقة الفجر، المباركون، الشعر والنظام، نحو معرفة الروح، الدرب المعطي، ملاحظات في المنهج، الأحلام والزمان، قبل احتجاب البحار، فضاءات الغابة... وعملت ثامبرانو أستاذة للفلسفة في جامعات عدة داخل إسبانيا وخارجها: مدريد وبورتريكو وكوبا، وكان لها تأثير في الأدباء الإسبان والكاتبين بالاسبانية، مثل اوكتافيو باث. ويلمح عطية إلى القرابة التي تربط بين كتاب ثامبرانو"الفلسفة والشعر"ودراسة الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل في عنوان"التصوف والمنطق"الذي يرى فيه ان أعظم ما يلهم الفيلسوف هو الجمع بين الترعتين العلمية والصوفية. تسعى ثامبرانو إلى الانتقال من ثنائية"العقل الفلسفي"وپ"العقل الشعري"إلى تبني ما أطلق عليه أورتيغا آي غاسيت"العقل الحيوي"وهو ما يستدعي ربط هيدغر بين الفلسفة والشعر واعتبارهما أعلى قمتين يصل إليهما الإنسان ليدرك كنه الوجوه، كما يستدعي محاولة نيتشه الجمع بين النزعة الديونيزسية والنزعة الأبوللونية العقل والعاطفة وصولاً إلى"العقل الموسيقي"أو: العقل الغنائي"الذي يحقق التناسق والانسجام الهارموني بين كل فاعليات النفس والجسد، الروح والمادة، الله والعالم. من هنا ذهبت ثامبرانو إلى دمج الفلسفة والشعر في مفهوم"العقل الشعري"بل الى دمج الحاجات الحميمة والدينية للكائن البشري مثل حياة الأحلام وعلاقتها مع التجارب الزمنية، وهكذا يقرر عطية أنه"في الأزمنة المعاصرة ارتبط الإحباط بالفلسفة، والعزاء بالشعر". في تمهيده المهم أوضح خيسوس مورينوسانث أن الكاتبة بدأت كتابها في برشلونة تحت قنابل الحرب الأهلية المشؤومة 1936 - 1939، واستمرت فيه عند خروجها الحزين من وطنها إسبانيا مطرودة بسبب إخلاصها للجمهورين وأنهته في مكسيكو عام 1939. في كتابها"الشعر والنظام"1944 تقول:"يجب أن ينظر إلى الدين والشعر والفلسفة نظرة تكاملية. بهذه الصورة وحدها يمكن للفلسفة أن تثبت مشروعيتها". هي، منذ البدء إذن تسكن وسطاً برزخياً كالذي سماه فيلسوف مرسيا المعروف محيي الدين بن عربي"ملتقى البحرين". الفلسفة والشعر، إذاً، موضوع حيوي جدير بالحوار والمعالجة والفحص، لا سيما أن ثقافتنا العربية لم تناقش هذا الأمر بالاستفاضة التي هو جدير بها. وربما يرجع ذلك في بعض وجوهه إلى أن الفلسفة كانت في ثقافتنا العربية شأناً مكروهاً مقلقاً في معظم العصور والحقب. والحق أن جذور كل من الدائرتين جذور مشتركة، ذلك أن"المجاز"يجمع بين الشعر والفلسفة وهنا نتذكر أن"أصل"النبع في كل من المعرفة الفلسفية والمعرفة الجمالية والمعرفة الدينية أصل واحد هو"الرمز"للوصول إلى"العروة الوثقى"بين الذات والموضوع، بين الجزئي والكلي، بين: الرؤية والرؤيا وعلى ذلك فإن البرزخ بين الفيزيقا والميتافيزيقا هو المساحة المشتركة بين هذه المعارف الثلاث. وفي رأي بعض المؤرخين والمفكرين أنّ الانسجام بين هذه المعارف الثلاث كان قائماً منذ القدم، حتى حصل انقسام العمل وانقسام الملكية، فنشأ النزاع بين المعارف الثلاث على امتلاك"مخيلة"الإنسان وقوته"الرمزية". حينما قال اللاهوت المسيحي"في البدء كان الكلمة"لم يوضح أحد ما إذا كانت هذه الكلمة التي هي البدء تنصرف إلى الفلسفة أم إلى الشعر أم إلى الدين؟ وحينما قيل باكراً إن الفلسفة بنت"الدهشة"لم يستطع أحد أن ينكر أن هذه الدهشة هي كذلك أصل الشعر وأصل الدين. قام التفريق بين الفلسفة والشعر على الاعتقاد بأن الفلسفة هي العقل، وان الشعر هو القلب. وذلك على أساس من التقسيم الثنائي المشهور بين النزعة الديونيزسية والنزعة الأبوللونية، مع أن العديد من الفلاسفة والشعراء قدموا نماذج باهرة لتداخل النزعتين، ألم يقل لنا ابن عربي"الجسد قبَّة الروح". وعلى رغم أن ثامبرانو تعد منحازة للشعر، فإنها لم تلجأ من بين الفلاسفة إلا إلى أفلاطون الذي طرد الشعراء من المدينة الفاضلة، متغافلة عن فلاسفة قدماء آخرين اهتموا بالشعر اهتماماً بلغ بأرسطو إلى وضع كتاب"فن الشعر". وقد أولى فلاسفة قريبون ومعاصرون قسطاً كبيراً من الاعتناء للشعر في منظومتهم الفلسفية وقدموا تنظيرات إضافية لفلسفة الجمال والفنون وشكلوا قنطرة متينة بين الشعر والفلسفة ونذكر منهم على سبيل المثل: هيغل وانجلز وغارودي ومن فلاسفتنا العرب الفارابي وابن سينا الذي تحدث مبكراً عن لذة النص وابن عربي والنفري وهناك من الشعراء في الشرق والغرب من تذوب في إنتاجهم الحدود بين الفلسفة والشعر مثل المعري والحلاج وهولدرلين وريلكه وطاغور واونامونو وادونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم. "الفلسفة والشعر"كتاب شائك حي، حول قضية شائكة حية بين عنصرين متنابذين. متناغمين: بينهما عوامل خصام كثيرة، وبينهما عوامل تصالح عدة. حينما تكون بينهما حرب ساخنة لكن كريمة على امتلاك"الروح"البشري، وحينا يكون بينهما تعاون خلاق لتحرير"الروح"البشري من ملكية القهر والشر والخراب.