«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نسينا بعضنا في محطات الرحيل.. و«العناق» كان أجمل طقوس الوداع
ناقد وشاعر يبوحان للشمال بعد أن غادرا «ميامي»:
نشر في الرياض يوم 13 - 12 - 2014


شمال القلب
لم يتسع قلبي يوما إلا للفضاء.. ولأنني مهووسة باقتناء الموسيقى الناعمة بداخل جيوبي فكثيراً ما كنت أفكر في نحت معزوفتي الخاصة التي أحلم أن تأتيني يوما بسرب من الحب ليحيط عالمي بالدهشة، يطوقني بالرؤية التي لها قدرة الغناء بصوت عال وبالغ العذوبة والشفافية. في مثل هذا الشتاء الذي يطل برأسه ثم يميل بأفكاره نحو صدر الأرض.. أجلس عند مقبض الباب المغلق أمام حياة تشتهي أن تزورني ذات مساء، تترك بداخل القلب جسوراً نحو الانسان. تقبل جبيني وترحل..
ولم يحدث أن بقيت ممسكة بمقبض الباب أنتظر أن يفتح كما أفعل الآن.. لم يحدث أن بقيت مسندة أوجاعي على الباب لأدخل أمام المالك الحزين وأسرد حكاياتي التي لا يعرفها أحد كما أفعل الآن.. لم يحدث أن بقيت أسند الروح على باب مغلق لعله يفتح دون أن أبكي، دون أن أنادي.. دون أي مقاومة كما أفعل.. لم يحدث سوى هنا.. في الشمال الذي أسرد فيه حكاية لقاء يستحيل إلا أن يكون حقيقة في مستحيل.. آتي بعد أن أرتدي عباءة طويلة سوداء.. أفتح أطرافها ليدخل الغيم بجوانبها وتمطر الأحلام كما كنا نحلم صغارا، حينما كانت الهدايا تأتينا ليلا لتنام بوداعة تحت الوسادة.. هنا.. لا أغمض عيني وأحلم.. بل أدع العينين مفتوحتين وأعيش الحلم كما يحق لنا أن نحلم.. أرتب لقاء بين شخصيتين أدبيتين تجيئان بكل الأمطار لتشاكس قلبي وتضحك مع أمنياتي.. الحوار هنا حدث فعلا. ولكنه خارج حدود المكان في أعلى مكان من القلب.. لقاء يجمعني بالناقد والكاتب المصري الدكتور أيمن بكر، والشاعر السعودي «جاسم الصحيح».. رجلا البوح يلتقيان بامرأة كشفت عن قلبها.. وقالت للحياة «نعم للحب»، للبياض، للإصرار حتى إن كان مؤلما.
لم يتسع قلبي يوما إلا للفضاء.. ولأنني مهووسة باقتناء الموسيقى الناعمة بداخل جيوبي فكثيراً ما كنت أفكر في نحت معزوفتي الخاصة التي أحلم أن تأتيني يوما بسرب من الحب ليحيط عالمي بالدهشة، يطوقني بالرؤية التي لها قدرة الغناء بصوت عال وبالغ العذوبة والشفافية. في مثل هذا الشتاء الذي يطل برأسه ثم يميل بأفكاره نحو صدر الأرض.. أجلس عند مقبض الباب المغلق أمام حياة تشتهي أن تزورني ذات مساء، تترك بداخل القلب جسوراً نحو الانسان. تقبل جبيني وترحل..
سأترك السنوات وراء ظهري وأعود إلى السنة الأولى من «الحلم»
أشعر بكل هشاشة العالم حينما يبتعد عني من أحب
ولم يحدث أن بقيت ممسكة بمقبض الباب أنتظر أن يفتح كما أفعل الآن.. لم يحدث أن بقيت مسندة أوجاعي على الباب لأدخل أمام المالك الحزين وأسرد حكاياتي التي لا يعرفها أحد كما أفعل الآن.. لم يحدث أن بقيت أسند الروح على باب مغلق لعله يفتح دون أن أبكي، دون أن أنادي.. دون أي مقاومة كما أفعل.. لم يحدث سوى هنا.. في الشمال الذي أسرد فيه حكاية لقاء يستحيل إلا أن يكون حقيقة في مستحيل.. آتي بعد أن أرتدي عباءة طويلة سوداء.. أفتح أطرافها ليدخل الغيم بجوانبها وتمطر الأحلام كما كنا نحلم صغارا، حينما كانت الهدايا تأتينا ليلا لتنام بوداعة تحت الوسادة.. هنا.. لا أغمض عيني وأحلم.. بل أدع العينين مفتوحتين وأعيش الحلم كما يحق لنا أن نحلم.. أرتب لقاء بين شخصيتين أدبيتين تجيئان بكل الأمطار لتشاكس قلبي وتضحك مع أمنياتي.. الحوار هنا حدث فعلا. ولكنه خارج حدود المكان في أعلى مكان من القلب.. لقاء يجمعني بالناقد والكاتب المصري الدكتور أيمن بكر، والشاعر السعودي «جاسم الصحيح».. رجلا البوح يلتقيان بامرأة كشفت عن قلبها.. وقالت للحياة «نعم للحب»، للبياض، للإصرار حتى إن كان مؤلما.
من ميناء ميامي.. أصعد على متن باخرة "نورويجيان" Norwegian والمنطلقة إلى المحيط الأطلنطي في رحلة تستغرق عشرة أيام.. أقترب من سورها الكبير.. أرمي بنظرة ممتدة إلى الضفة الأخرى من الساحل.. والكثير من الأناس ينظرون للباخرة، وآخرون يلوحون للمسافرين.. فيما بقيت أرمي بتأملاتي صوب البحر.. وأنا تلك المرأة التي ترتدي ثوب أسود لا يبدد ظلمته سوى حزام طويل لونه أحمر مربوط بشرائط من الخلف.. وحقيبة مفتوحة من الأفق وكأنها تجرب أن تتعلم الكلام..
ألتفت إلى جانب الممر للباخرة.. ألمح الناقد الدكتور أيمن بكر.. يكتب على ورقة وبرفقته الشاعر جاسم الصحيح وقد بدا كأنه يلقي قصيدة في حالة متجلية دون أن يلحظهما أحد..
أتساءل: كيف يتحول الحنين إلى غذاء للروح وجلاد في نفس الوقت؟
أنا كائن من زجاج أتحطم حينما ينهرني الحب
أقترب منهما.. يرفع "جاسم الصحيح" رأسه. نحوي.. يتوقف عن الشعر.. يطلق كلمات الترحيب.. ألقي التحية على الدكتور أيمن بكر.. أشاركهما ذلك الانتظار لحالة إقلاع في باخرة كأنها مدينة عائمة فوق الجسور والاحلام.. ولنقول هناك كل الكلام.
- أفتش لي عن مقعد مناسب حتى أجلس عليه.. ينهض جاسم مستدركا بلطف..
أنتظري.. سآتيك بمقعد مناسب..
عبير:
شكرا لك.. سيدي.. يبدو بأن مصيرنا أن نختار مقاعدنا بأنفسنا عوضا عن أن يختارها أحدا ما عنا..
- أبتسم.. أسحب مقعد قريبا منهما.. ثم أكمل:
ذلك المقعد – أظن – بأنه يجب أن يكون المقعد المناسب لمقاس أحلامنا.. ربما أيضا يجب أن نختاره مجاوراً للأمل يتسع لكل مايحمله القلب حتى نستطيع أن نضع أمتعتنا في الأمكنة التي تملك قدرة الوفاء بما نمتلكه دون أن ينقص من ذلك شيء.
- أيمن يتأملني كمن يجرب أن يبحر في ذلك الحديث ثم يقول :
ذلك مغر للنقاش ياعبير..
نعم الحياة محطات، ولكن متى ندرك ذلك؟ ليس منذ البداية بكل تأكيد، فحين يبدأ وعينا بأنفسنا ندرك طاقات الحياة في شراييننا كقوة شهية وعاتية تتحكم فينا بأكثر ما نتحكم نحن فيها، ندخل في مراحل دونما إدراك، ثم نبدأ بحسب ترقي الوعي في إدراك ما تحدده لنا ثقافاتنا بوصفه "مراحل". صناعة المراحل في حد ذاتهاهي منتج ثقافي ينتظر من يقوم بتحليله في الثقافة العربية، ؛ ليست مراحلنا كمراحل اليابانيين أو الكاميرونيين أو السويديين مثلا، رغم وجود أوجه تشابه. تحديد مراحل حياة الأفراد هو مسألة ثقافية بامتياز.
لا أعرف معنى الهروب حينما يتعلق ذلك بما أؤمن به
اخترت مقعداً مجاوراً للألم فاكتشفت امرأة جميلة بجواري
جاسم:
لا شكَّ أنَّ الحياة طريقٌ طويل تتناسل على جنباته المحطاتُ التي نستريح على أرصفتها كي نتأمل فيما عبرناه ونستشرف ما سوف نعبره من هذا الطريق، ونتزوَّد بالوقود لمواصلة الرحلة. ولكنَّ رحلتنا شبيهة إلى حدٍّ ما برحلة النهر حيث مهما حاول النهر أن يتجنَّب العثرات في مجراه فإنَّه لن يعود إلى والده البحر سليما معافى، وإنما في حالة من التعب واللهاث بعد أن يعبر بالكثير من العثرات ويرتطم بالكثير من الصخور والأحجار. هكذا نحن في علاقتنا بذواتنا.. منها ننطلق وإليها نعود ولكنْ غالبا ما نعود ملطَّخين بالآلام والانكسارات، ونادرا ما نعود متوَّجين بالأحلام والانتصارات.
- يحمل "أيمن" القلم ويكتب على ورقته "محطات".. يضعها في دائرة ثم يعلق:
بالنسبة لي كان إدراك المراحل مبكرا إلى حد كبير، حين كنت أدرس الرياضيات في كلية التربية بجامعة القاهرة، وأدركت أني أسير في اتجاه خاطئ بل ومضاد لمواهبي وميولي ساعتها. كنت شاعرا أعيش مراحلة اكتشاف العالم وسط مجموعة نادرة من شعراء مصر في مدينة الفيوم. اتخذت قرارا مبكرا بترك ثلاث سنوات من الدراسة الجامعية وراء ظهري والعودة إلى السنة الأولى في كلية الآداب قسم اللغة العربية حيث أنتمي. هنا كان لابد من رسم مراحل محددة لحياتي كي تبرر قراراً مجنوناً، أو هكذا بدا ساعتها. قررت في لحظة اتخاذ القرار أني سأقوم بتحضير رسالتي ماجستير ودكتوراه وأني سأوجه طاقتي خلال ذلك إلى مجال النقد الأدبي. وهذا ما حدث بعد أربع عشرة سنة من القرار السابق.
في هذه الفترة كان الألم والمتعة قرينين بسبب التحديات التي واجهتها بداية من الأسرة وانتهاء بالمحيطين الذين ظنوا القرار هروباً معبراً عن الفشل.
جاسم:
أحببت ذلك القلم الذي جاءني ممن لا تجيد القراءة ولا الكتابة
أصعب مافي السفر حينما تلتقي وطنك وأنت خارج الوطن
معك حق يا دكتور أيمن..
محطات الانتظار حبلى بالصُّدَفِ البيضاء التي تجمعُنا أحيانًا بمن نحبُّهم دون مواعيد سابقة. هذه المحطات تستنضجنا دائما على لهيب الانتظار وتُطعمنا للقطارات والطائرات والباصات ونحنُ في أتمِّ النضوج. بالنسبة لي، لا أدقِّق كثيرا في اختيار المقاعد وإنَّما أختارها على عجل مؤمنا بما تُخَبِّئُهُ الصدفة من نجاح أو فشل، لكن أستطيع أن أؤكد أنَّ المقعد الذي عادةً ما أختاره فأكتشف أنَّ الألم جالسٌ إلى جواري، هو ذلك المقعد الذي حينما أجلس عليه وألتفت، أرى امرأةً جميلةً تحتلُّ المقعدَ المجاور.
- أبتسم كمن سمع خبر جميل..أنظر لجاسم بدهشة ثم أعلق:
عبير:
*ذلك مدهش.. إمرأة جميلة بجوارك.. هل كنت تعرفها؟ أم أنها كانت من الغرباء العابرين في محطة من المحطات ؟؟
- يضحك " جاسم " وكذلك يفعل " أيمن..
جاسم:
وجوه الغرباء في المحطات تستثير الأسئلة وتبعث على التأمل العميق في ملامحها لاستكشاف ما وراء هذه الملامح. الفضول الإنساني دائما ما يستيقظ ويخرج من مخابئه في النفس بحثاً عن المجهول في تلك الأوعية المغلقة بالتعب والإجهاد والسهر.. وربما بقليلٍ من الابتسامات أيضًا.
هل تصدقيني ياعبير.. توجعني مشاهد الوداع في المحطات وتؤلمني الدموع التي تغسل وجنات تلك الأمكنة. ولكنَّني أحاول أن أقتنص الجمال من تلك المشاهد الحزينة فأكتشف أن العناق هو أجمل طقس من طقوس الوداع.
أيمن:
لا تستفزني وجوه الغرباء، وإنما تثير فضولي للمعرفة. كل غريب بالنسبة لي هو كنز معرفي مخبأ وراء لغته أو لهجته أو أعرافه أو ثقافته بصورة عامة.
لكني أود هنا التفرقة بين رفقة القطار العابرة وشعور الاغتراب الملاصق لأي مثقف حقيقي. رفقة القطار أو المطارات هي هدأة مباغتة من حسابات شبكاتنا الاجتماعية، هي انفلات مدهش من خطابات معتادة أصبحنا خبراء فيها، لدرجة أنها كسدت وأصابت أرواحنا بالكساد. رفقة القطار أو المطار لذلك هي فرصة حقيقية، لمن أراد، كي يختبر الإنسان ادعاءاته عن نفسه عبر طرحها أمام هذا الرفيق الغامض الذي لا يعرفنا وليس مضطرا للدخول في حسابات وتوازنات معنا.
- ينظر جاسم للغرباء في الباخرة.. ثم يتساءل:
أمَّا أنا فمتى لم أشعر بأنِّي غريب كي أقتصر هذا الشعور على محطات السفر!! أنا أشعر بالغربة في جسدي وفي الأرض على حدٍّ سواء. إنَّ مفردة الاغتراب تحمل دلالة كبرى في معناها الإنساني خصوصا وأنَّ جذورها القديمة تتحدَّث في الكتب المقدسة عن وجود الإنسان على هذه الأرض بوصفه اغتراباً بعد أن تمَّ طرده من السماء. ولا يمكن للشاعر أن يتجاوز هذا المعنى الأوَّل للاغتراب، لكن يمكن أن يربطه بالمعاني اللاحقة مثل غربة الإنسان في الجغرافيا بعيدا عن الوطن، أو غربته النفسية داخل وطنه ووسط مجتمعه وهذه من أقسى الغربات.
بالنسبة لي، لا أبالغ إذا قلت بأنني عشت وأعيش جميع هذه الغربات وأكثر. أما هذه ال(أكثر) فأقصد بها الغربة عن الذات والتي تمثِّل، كما أراها، حالة من حالات الوعي الشعري لديَّ، أو فلسفتي في كتابة القصيدة، فالوعي بالنسبة لي هو عملية جادَّة لمطاردة ذاتي الغائبة في البعيد، والشعر هو حصان هذه المطاردة الشعواء، ومع كلِّ قصيدة أشعر بأنني أدنو من ذاتي خطوة وأكتشف من ملامحها ملمحا.
- أيمن معلقاً:
أما أنا ياجاسم.. فشعور الاغتراب هو قرين أي تكوين ثقافي عميق، وسأشير هنا إلى ما كتبه المفكر المعروف إدوارد سعيد عن منفى المثقف بوصفه حالة لصيقة بالمثقف حتى في وطنه. ما يعنيني في غربة المثقف هو تلك المسافة التي تحافظ عليها هذه الغربة بين المثقف – مفكراً كان أو مبدعا- وبين القوى الاجتماعية والسياسية المتصارعة من حوله. المسافة السابقة هي الضمانة الأساسية كي يتجنب المثقف الانخراط في هذا الصراع والتحول إلى ترس في ماكينة جهنمية يمكنها أن تستنفد طاقته وعمره ببساطة استخراج الحليب من ضروع الأبقار. المسافة السابقة تضمن كذلك للمثقف درجة من الحرية التي تسمح له بالانتصار للأضعف والأكثر هامشية في صراعات السلطة الطاحنة. بالمعنى السابق يكون شعور المثقف بدرجة من درجات الاغتراب ضامنا مهما لاستقلاله.
- تقترب منا فتاة جميلة.. تضع على طاولتنا منشورة لمسابقات ترفيهية ستقام في مسرح الباخرة للسرك بعد انطلاقها.. وقد كتب في أسفل المنشورة.. سيتم توزيع هدايا مميزة للمشاركين..
- أضع المنشورة على الطاولة..
عبير:
يوجد هناك هدايا..
أيمن مشاكساً.. هل ستحضرين من أجل الهدايا أو من أجل العروض !!
عبير:
الاثنين معا.. نضحك جميعا.. ثم أعلق:
يحرضني شكل الهدايا إلى مزيد من الحياة، مع أغلفتها الملونة ألتهم لحظات كنت فيها أقفز فرحاً لأن هدية قدمت لي وهي معلبة، مخبأة عن الآخرين.. فقط تنتظرني حتى أتوحد بها واكتشفها.. الهدايا أشواق غير معلنة.. وسر مغلف بسر آخر يعني الدهشة.. الهدايا قبلة الطفولة إليك..
أيمن:
وأنا كذلك يا – عبير- كأي طفل أطير فرحاً في لحظة فتح الهدية، سواء أهديت لي أو أهديتها أنا. أما الهدايا المرتبطة بقصص الحب فتعيدني لفترة الجامعة، حين كنا نتسابق في تبادل الهدايا مع من نحب. وأذكر تعليقاً طريفاً لأحد أصدقائنا، إذ كان دوماً ينصحنا بعدم شراء هدايا ثمينة حتى لا نندم بعد انتهاء العلاقة. ورغم طرافته، يشير تعليقه إلى أن الهدية يجب أن تكون تعبيراً عن الحالة المؤقتية التي وسمت علاقات الحب ساعتها. أهم هدايا حياتي كانت بيني وبين زوجتي هويدا بعد أن جمعتنا قصة حب هي الأهم والأنضج في حياتي. ولم تزل هي صاحبة أجمل ما يصلني من هدايا.
جاسم:
التهادي هو قِيمةٌ إنسانية إيجابية خصوصا إذا ما آمَنَّا بأنَّ الحياةَ في حدِّ ذاتها هي هديَّة نزلت إلينا من عالمٍ ما وراءَ هذا العالم. والهدايا هي ابتسامات القلوب إلى القلوب التي تحبُّها كما تبتسم الشفاه إلى الشفاه. لذلك، دائما ما نراها مغلَّفة بالسولفان المُشِعِّ الذي يعكس إشعاعات الفرح في الأعماق. إنَّ اللهفة المباغتة التي تجتاحنا حينما نستلم هديَّة.. هذه اللهفة تمثِّل طاقةً كبرى لتجديد الحبَّ في النفوس، ورفعِ منسوبِ تدفُّقه في الشرايين. الهديَّة تعني عُمراً أطول في الحبِّ، ورونقا أجمل يكسو شجرة الحياة.
بالنسبة لي شخصياً، لستُ كائنا بلا ذاكرة ولكنَّ الهدايا كالظباء التي تكاثرت على (خراشٍ.. فلا يدري خراشٌ ما يصيدُ). إلا أنَّ الهديَّة التي ما زالت تُلقي بظلالها على روحي وتمتلك حواسِّي هي عبارة عن قلم أهدته لي والدتي حفظها الله تعالى رغم أنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة، ولكنَّها تؤمن بقدرة القلم على أن يعيد صياغة الإنسان في أحسنِ تقويم.
* أحمل حقيبتي.. أنظر إلى متن الباخرة.. أسأل:
أين وضعتما حقائبكما؟
أيمن:
- يمكنك وضعها لدى ذلك الموظف.. أسأليه عن مكان استلام الامتعة.
يستلم الموظف مني الحقيبة.. أعود إلى طاولتي.. أقول وأنا أحاول الجلوس..
عبير:
ليس هناك ما يثقل كاهل الحقيبة سوى الكثير من الحنين..
وضتعه في الجيوب الامامية من الحقيبة..
جاسم:
السفر هو الطريقة الأجمل التي ألجأ إليها هروبا من نفسي، أو ربَّما كي أنسى نفسي تماما. في السفر، أشعر بأنَّني أخلع عني قيودا كثيرة دائما ما أشعر بها في مكاني، وربما أوَّل قيد هو قيد الرتابة الثقيل الذي يلتفّ حول الروح حتى يكاد يخنقها. في السفر، أمارس كينونتي كما يجب أن أمارسها وليس كما يمارسها الآخرون من خلالي. لا أريد أن أضيف إلى ما قاله القدماء عن السفر (سافرْ ففي الأسفار سبعُ فوائدٍ....)، لكنَّني في السفر أكتشف ذاتي على حقيقتها بأريحيَّة كاملة. لذلك، أشعر بأنَّني صورةٌ طبقُ الأصل من الحقيقةَ، أو على الأقلِّ أشبه الحقيقة حينما أكون على سفر.
أمَّا الحنين فهو المتطفِّل الوحيد الذي يلازمني طوال رحلاتي، ورغم أنَّني أضعه في الأمتعة الخلفية من الحقائب، إلا أنه يقفز بعد فترة وجيزة إلى الجيوب الأمامية ويشاكسني بمشاغباته العنيدة حتَّى أعود.
أخيرًا، إنَّ أصعب ما أواجهه في السفر هو أن ألتقي بوطني خارج الوطن، الأمر الذي يجعلني أشعر بأنَّني لم أغيِّر مكاني.
أيمن:
الحنين هو جلد حقيبتي، وليس أحد جيوبها. منذ ما قبل خروجي من مصر والحنين رفيق قراراتي وتحركاتي، الحنين للشقة الصغيرة التي كنت أعيش فيها وحدي فتحولت إلى صومعة يلتقي فيها كل الصحاب المبدعين، وللمدينة الصغيرة التي نشأت فيها (بني سويف)، وللمدينة الصغيرة التي رافقت فيها أهم أصدقاء العمر (الفيوم)، وللأستاذ الذي غيبته الغربة ثم غيبه الموت، ثم الحنين لشوارع وسط البلد بالقاهرة وسهراتنا فيها مع أصدقاء مبدعين، ثم الحنين لمصر بعد وصولي للسعودية، ثم حنين لجازان التي شعرت فيها بأني لم أخرج من بلدتي الصغيرة في جنوب مصر. أتساءل الآن: كيف يتحول الحنين إلى غذاء للروح وجلاد لها في الوقت نفسه؟ لا أدري كيف حدث ذلك لكنه الآن تركيب معقد من الألم والمتعة.
في السفر أحمل أوراقي وكتبي حين أكون متوجها لأحد المؤتمرات، وفي العودة تكتظ حقيبتي بتذكارات من المكان الذي زرته أتقاسمها مع أصدقائي الأقرب، وهدايا لهويدا ولابنتي مريم ودنيا.
عبير:
أحب السفر الذي يعيدني إلي.. أذكر مرة أنني سافرت إلى مدينة "هنزو" هناك وجدت حالة أشبه بالحلم.. هناك دهشت " بعبير" مختلفة، إمرأة تحولت إلى طفلة مرحه سعيدة تطش امطار الدهشة على وجهها.. كانت تلك سفرة الروح.. وفي المقابل أذكر بأنني سافرت ذات مرة حتى أهرب مني.. وهناك تألمت كثيرا.. لأكنني اكتشفت بأن الهروب من الألم ألما أكبر ونقص في الارادة وحزنا بالغ الخطورة.
أيمن:
ألمي الأكبر منذ الطفولة كان في المواجهات التي كثيرا ما كنت أصغر منها في فترة المراهقة. أنا لا أعرف معنى الهروب، خاصة حين يكون للأمر علاقة بمبدأ أو فكرة أراها جديرة بالدفاع عنها. ينطبق ما سبق على علاقتي بنفسي. وإن كنت قد تعلمت أخيرا الهروب من أمام شاشة التلفاز حين أكون في حالة بحث.
جاسم:
في الوقت الذي أبحث عن ذاتي عبر القصيدة، أحاول أيضا أن أصرعها وأبدع ذاتًا جديدةً تكون أكثر جمالا وكمالا. القصيدة هي عمليَّةٌ متواصلةٌ لإعادة خلق الذات، أمَّا الهروب من الذات فهو محاولة للبحث عنها في شكلٍ أفضل. (جاسم) يحاولُ أن يتجاوز (جاسما) بين كلِّ لحظةٍ وأخرى. لذلك، فأنا في كلِّ لحظةٍ أقول لذاتي: هذا يكفي، وفي كلِّ لحظةٍ أبحث عن ذاتي. إنَّها العمليَّة اللانهائيَّة في البحث عن الحقيقة التي تمثِّل طريقًا غير منقطع، وليستْ شاطئَ وصول.
- تطلق الباخرة صافراتها معلنة عن بدء انطلاق رحلتها..
نتجه نحو سور الباخرة الذي يفصلنا عن البحر.. ننظر إلى الواقفين عبر الضفة الأخرى ينظرون لنا فيما أخذ البعض ينادي على من يحب ويلوح له بالزهور..
أمام ذلك المشهد أهمس:
عبير:
كم أحب أن أترك زهور قلبي عند عتبات من أحب.. في لحظة الوداع تلك كثيراً ما يلتبس علي ما أشعر به.. هل أنا تلك المرأة التي أخفي بداخلي إنساناً هشا من زجاج؟ أم أنني المرأة التي لا تحب أن تلتفت إلى الوراء؟وربما ذلك مايشعر به الرجل؟
أيمن:
كلمة الرجل تشير بدلالة المخالفة إلى العلاقة مع المرأة، وأظن أن جميع من وصفت يغريني بأن أكونه، لكن من أنا حقاً هذا أمر سيجيب عنه من حولي بأصدق مما أستطيع. أحسب أنني في كل مرحلة أكون كائنا مختلفا، أضع كل ما أملك من روحي وقلبي حين أريد التعبير عن الحب، وأشعر بكل هشاشة العالم حين يبتعد عني من أحب. ثم إنني لا أنظر للوراء إن قررت إنهاء العلاقة.
- ينظر إلي مبتسما..
ألم أقل لك إن السؤال يغريني بأن أكون جميع ما فيه.
جاسم:
للأسف الشديد، أنا كائنٌ طفوليٌّ من زجاج.. أتحطَّم بمجرَّد أن ينهرَني الحبُّ أو يصدُّ عني المحبوب. كينونتي تتشظَّى برمشةٍ من عيون الجمال، وصلصالي يتكسَّر على إيقاع أقدام الطفولة.
ورغم أنَّني كثير الالتفات إلى الوراء، لكنَّني لا أرى في الماضي إلا المشاهد الجميلة والذكريات الآسرة، لذلك لم أعرف كيف أصنع من أخطاء الأمس مصابيحَ تضيء لي طريق المستقبل.
عبير:
* هل هذا هو كل الكلام الذي لم نقله يوما؟
أيمن والاصرار في عينيه:
- كلامي الذي أقوله دوما وأشعر أني لم أقله بعد وسأظل ما حييت أردده بطرق مختلفة موجه لثقافتنا العربية التي لم تزل مرتبكة في تحديد أولوياتها وتعريفها لذاتها، ثقافتنا التي تحرم نفسها وأفرادها من الدخول في تجارب الحياة بمنطق المستكشف، وهو ما أسقطها بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد. لا خلاص لنا بدون العلم والاعتماد على الكفاءة، وليس التلفيق القاتل بين قيم تدعونا للتخلف وبين تمسك شكلي بأفكار التحديث دون اقتراب من روحه.
جاسم ينظر للفضاء ويقول:
لا أظنُّني قلتُ كلاما حتى الآن.. القولُ الذي لم يصلْ ليس كلاما.. كلُّ كلام دون بوصلة ما هو إلا هذيان وثرثرة.. أعتقد أنَّني ثرثرتُ كثيرا ولكنني لم أقلْ إذْ لا بدَّ من بوصلةٍ ترشد المعنى التائه إلى جهة العبارة لعلَّها تعرف الطريق إلى الناس.
- يرفع يده ملوحا لنا.. كمن يرغب أن يغادر.. ثم يعلق :
وأنا قبطان الكلام الذي تنقصه البوصلة.
- نفترق جميعاً.. في تلك المدينة العائمة على ظهر باخرة نورويجيان الضخمة..
أترك عيني معلقة في سماء تتداخل بروحها مع زرقة البحر. فيما قلبي يجرب أن يقفز في عرض المحار ليسمع أكثر عن أشواق تأتي بها حورية البحر لترمي بها عالياً..
تهب نسيمات البحر الباردة.. أرتدي وشاحي.. أترك مفاجئات الايام مفتوحه لروحي.. أغادر إلى هناك.. عند أقصى زاوية من شمال القلب.
الشاعر جاسم الصحيح
أيمن أثناء حضور مؤتمر في اليابان
أيمن مع زوجته هويدا
جاسم مع رئيس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك خلال استلام جائزة البابطين عن أفضل ديوان شعر عام 2013م
أيمن في الجامعة أثناء حضور أحد حفلات التخرج مع الدكتور جودوين اتشيبي
أيمن في ندوة بالبحرين
جاسم يلقي قصيدة في افتتاح مهرجان الجنادرية قبل خمس سنوات
أيمن في حفل توقيع لأحد كتبه في جامعة الخليج وبحضور السفير الألماني
جاسم مع الشاعر محمد العلي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.