«في عوليس فقد حاولت أن أرى الحياة بوضوح، وأن أفكر في الحياة كما لو أنها شيء كامل» جيمس جويس مقدمة: العمل الروائي الإبداعي والمتميز عمل شاق ومجهد لصاحبه، يأخذ منه سنوات طويلة، وليس سنة أو بضعة شهور، كما نرى في بعض الروايات العربية التي نجد بعضهم يصدر رواية كل عام أو عامين، وكأنه يسابق الزمن، وتأتي روايات عادية. المبدع الحقيقي في الرواية هو من يعيش روايته، ويصنع منها تحفة أدبية؛ وهذا يتطلب جهد سنوات، ونضجًا وخبرات. الروائي الجاد والمتميز يعمل على تطوير أعماله الروائية لتحمل رؤيته في الحياة والإبداع، وتخلد اسمه عبر الزمن.. سيكولوجية الإبداع عند جويس سأل أرثر باور arthur power (1920) في حواره مع جيمس جويس عن أسلوب جويس في الكتابة، وكان السؤال هو «أرى أنك كنت تكتب أفضل حين كنت رومانسيًّا مثل ستيف ديدالوس؟ (ويقصد السائل في رواية «صورة الفنان في شبابه» لجويس)». وأجاب جويس بقوله: «إنه كتاب فترة شبابي.. أما عوليس فهو كتاب فترة نضجي، وأنا أفضل الفترة الثانية على الفترة الأولى. (عوليس) عمل يرضيني أكثر من الأول؛ ذلك أن الشباب فترة نعذب فيها أنفسنا، وليس باستطاعتنا أن نرى بوضوح. أما في «عوليس» فقد حاولت أن أرى الحياة بوضوح، وأن أفكر في الحياة كما لو أنها شيء كامل. إن عوليس كان دائمًا بطلي المفضل...» (1) وحول أسلوبه في الرواية يقول جويس: «صحيح أننا لا نستطيع أن نتخلص تمامًا من الماضي، وأنه علينا أن نأخذ العالمين بعين الاعتبار، غير أن العالم المخفي، عالم ما تحت الشعور، هو المهم، والمثير أكثر من الأول. والكاتب الحديث يهتم بكشفه، ويرصد أغواره، ويتعرف على ما يدور فيه» (2) بلوم = جويس = عوليس يمثل بلوم شخصية جويس الذي يتقمص شخصية عوليس في رحلته الطويلة ومغامراته.. ففي الجزء الثاني من الرواية يتحدث جويس عن (الأوديسا أو المغامرات)، ويحاكي فيه هوميروس في الأوديسا، ويستخدم الأسماء نفسها في رحلته. ويتكون هذا الجزء من اثني عشر فصلاً. الفصل الرابع: كاليبو، الخامس: أكلة اللوتس، السادس: الجحيم، السابع: آلة الريح، الثامن: أكلة لحوم البشر، التاسع: سلة وكاربيد، العاشر: الصخور الضالة، الحادي عشر: السيرنيات، الثاني عشر: السيكلوب، الثالث عشر: نوزيكا، الرابع عشر: نيران الشمس والخامس عشر: سرسه. في هذا الجزء نتعرف على (السيد بلوم)، نرافقه في رحلة عبر هذه الفصول الاثني عشر حتى يقابل (ستيفن ديدالوس) في الفصل الخامس عشر حيث يجتمعان في منزل (بلوم)، ويتحدثان عن (موللي) زوجة بلوم، التي يخصص لها جويس الفصل الأخير من الجزء الثالث من الرواية؛ لكي تتحدث فيه. شخصية بلوم تجسد شخصية جيمس جويس نفسه في الفصل الرابع، وهو شخص مرهف الحس، ويعيش يومه، ويستمتع بالأشياء من حوله. يجمع المعلومات والأفكار التي تتزاحم في رأسه. ويمثل بلوم حقيقة تداعي الأفكار وتيار الوعي؛ لأن الفكرة لديه تجر الفكرة، والإحساس يولد إحساسًا جديدًا، واستجابات بلوم هي استجابات شعورية ولا شعورية. وكما أسلفنا جويس يطبِّق مدرسة تيار الوعي السيكولوجية. يعكس هذا الفصل شخصية بلوم وتفاعلاته مع الأشياء وأحاسيسه وحياته خلال 45 دقيقة؛ إذ يبدأ بلوم بالتفكير بالأعضاء الداخلية للحيوانات: «كان مستر بلوم يستطيب أحشاء الحيوانات والطيور، يؤثر الكثيف من حساء جوانح الدجاج والأوز، والقوانص اللينة، القلب المحمر المحشو، قطع الكبد المقلية بالبقسماط، وبطارخ سمك البكلاء المقلية، وكان أشهى الأنواع إلى نفسه كلاوي الضأن المشوية» (3) ثم تراه في المطبخ يعد لزوجته طعام الإفطار على صينية: «كانت الكلاوي في رأسه وهو يطوف في المطبخ برفق، يعد لها حاجات الفطور على الصينية المحدبة. تجمد الضوء والهواء من البرودة في المطبخ، وفي خارجه صباح الصيف الرقيق في كل مكان مما يدفع الإنسان للنبش» (4) ويصعد إلى حجرة النوم بحذر، ويسأل الزوجة إن كانت تريد شيئًا: «وعلى حذاءين يئزان، صعد بهدوء على السلم إلى البسطة، وتأنى بجوار حجرة النوم، وربما تريد شيئًا لذيذ الطعم، عيش رقيق وزبد أحب شيء لها في الصباح، ومع ذلك من يدري هذه المرة. وقال برفق في الصالة الخاوية: - أنا رايح لناحية الشارع وراجع حالاً، وعندما انتهى من سماع نفسه وهو يقول هذا أضاف: - وأنت مش عاوزة حاجة للفطار. وأجابته همهمة خافتة ناعسة: - لا - لا، لا تريد شيئًا. سمع حينئذ زفرة دافئة عميقة أرق، وهي تستدير على الجانب الآخر وصوت السوست النحاسية المفككة في السرير يجلجل. من الضروري إصلاحها، آسف، المسافة كلها من جبل طارق ونسيت الكلمات الإسبانية التي كانت تعرفها، ترى كم دفع والدها ثمنًا له، طراز قديم، آه، نعم بالطبع اشتراه من مزاد الحاكم، ورسا عليه المزاد بسرعة» (5) ثم ينزل بلوم إلى الدور الأول، ويبحث عن مفتاح المنزل، فلا يجده في جيب بنطلونه؛ لأنه غيّر ملابسه، وقطعة البطاطس الجافة، وهي فأل حسن، ورثها من والدته وهي ترمز إلى إيرلندا، وتعتبر جذور وبذور النباتات: «عند عتبة الباب تلمس في جيبه الخلفي المفتاح، لا وجود له في البنطلون الذي تركته، يجب أن آجي به، لدي بطاطس، دولاب ذو صرير، لا نفع من إزعاجها، لقد انقلبت بنعاس تلك المرة» (6) وفي الشارع يستمتع بلوم بدفء الشمس، ويلمح عربة الخبز، ونعرف أن زوجته تحب «رجيع الخبز» لعمل الخبز المقمر. يقول جويس: - «لم يكن في استطاعتي أن أذهب بالحالة الفاتحة، لكنت أضحوكة، وغالبًا ما أسدل جفونه بارتخاء وهو يسير في الدفء السعيد، عربة الخبز التابعة (لبولاتد) توزع خبزنا اليومي على طاولات، ولكنها تفضل أرغفة الأمس ورجيع الخبز لعمل الخبز المقمر، تجعلك تشعر بالشباب». (ويتذكر رحلته إلى الشرق): - «في مكان ما من في الشرق، في الصباح الباكر: أبدأ عند الفجر، وأستمر في السفر أمام الشمس، وبهذا الشرق يوميًّا منها أستمر في هذا إلى ما لا نهاية؛ فلا يزيد عمرك يومًا واحدًا نظريًّا» (7) ويمر بلوم بمحل «لاري أوروك» البقال، ويحييه دون توقُّف، ويحلق بخياله ويتساءل كيف يثري هؤلاء؟! ويقف بلوم خلف فتاة طاولة البيع، وهي الخادمة التي تعمل في المنزل المجاور، ويسكنه شخص اسمه «وودر»، له زوجة عجوز، ويبدأ بلوم في تفحص يدها المشققة من صودا الغسيل، وأذرعها القوية، وأردافها، ويستعير جويس لغة الجزار في وصفه لها: - «فهنا لحم سليم مثل لحم العجل المعلوف» (8) ويخرج بلوم إلى الشارع، ويلمح سحابة رمادية اللون تغطي الشمس، وهذه السحابة يلمحها ستيفن ديدالوس في القلعة في الفصل الأول في الوقت نفسه، وهي ترمز للزمن حسب جويس في هذه الرواية المتشابكة أحداثها كأغصان الشجرة الكبيرة. ويسرح بلوم بخاطره، ولا يزال يفكر ويحلم في هذه المزرعة النموذجية. يقول جويس: - «وبدأت سحابة في تغطية الشمس كلية ببطء، بور، فياف عادية، بحيرة بركانية، الحب الميت، لا سمك، ولا أعشاب، يغوص عميقًا في التربة، ولن ترفع ريح هذه الأمواج، المعدن الرمادي، كلها سامة، عكرة، قالوا إنها أمطرت ماكريتيا، مدن السهل، سدوم وعمورة وايدوم، كلها أسماء ميتة، بحر ميت في أرض ميتة، رمادية وقديمة، قديمة الآن، أنجبت الأوائل، أول جيل» (10) ويعود بلوم إلى منزله ليجد خطابًا من ابنته وخطابًا لزوجته، وينزل إلى المطبخ يفتح خطابه، ويحمل صينية الشاي إلى حجرة زوجته، وأشارت إلى كتاب سقط تحت السرير، ويحاول أن يشرح لها معنى كلمة (تناسخ الأرواح)، يقول جويس: «تناسخ! إيه؟ سألها (كانت قد نطقت بالكلمة) - هنا، قالت، ما معنى هذه الكلمة - ومال إلى أسفل وقرأ بجوار ظفر إبهامها المطلي - تناسخ الأرواح - أيوه الأرواح دي يعني إيه؟ - تناسخ الأرواح، قال مقطبًا جبينه، هي كلمة إغريقية، من اليونان معناها: نزوح الأرواح. - بعض الناس يؤمنون - قال - بأننا نستمر في الحياة في جسد آخر بعد الموت، وأننا كنا نعيش من قبل ذلك، ويطلقون على هذا التجسيد، ويقولون إننا نسينا هذه الحياة، ويقول البعض إنهم يتذكرون حياتهم الماضية»(11) وأخذ يقلب الكتاب - «تاريخ الأرواح، قال هذا هو ما سماه الإغريق القدامى. لقد تعودوا أن يؤمنوا بأن الإنسان يمكنه أن ينقلب إلى حيوان أو شجرة، مثلاً، ما يطلقون عليه كلمة «الحوريات». - وتوقفت ملعقتها عن تقليب السكر، وحملقت رأسا فيما أمامها، واستنشقت من خلال خياشيمها المفتوحة: - فيه ريحة شياط، قالت أنت سايب حاجة على النار؟ - الكلية، الكلية، صاح فجأة» (12) هل عوليس رواية أم عالم متكامل؟ يرى د. طه محمود طه مترجم رواية عوليس: «إنها ليست قصة أو رواية أو ملحمة أو مسرحية أو قصيدة أو أغنية، هذا عالم بأكمله، تراث أمة، تاريخ شعب، ذخيرة ضخمة من الأغاني الشعبية والألحان، وهذا النص ساحته تزخر بصراعات المدارس الأدبية، ومناورات السياسيين، ومحاورات رجال الدين، ومتاهات الفلاسفة، ويجد القارئ فيها المرح والفكاهة، والحزن والكآبة، والفقر والمعاناة، وفيها الأدب والجغرافيا والتاريخ والفلسفة والاجتماع والعلم والمسرح والتمثيل، والإعلان والإعلام واللغة والرسم والنحت والأكل والشرب» (13) ** **