مع انتقال صفحات هذا الملحق الثري بتنوعه، والراسخ بتنويره على مدى أكثر من أربعة عقود من صباحات الخميس إلى صباحات السبت، وأخيرا جاء بينهما ليطل علينا صباح كل جمعة، أردت هنا ومن خلال هذه المساحة أن أقف شاهدا على عصر الملاحق الثقافية في صحفنا، التي كانت المنبر التنويري الأكبر لحركتنا الإبداعية طوال العقود الخمسة الأخيرة. والحقيقة أن الوقوف هنا - وكي أكون منصفا - قد يميل إلى حضور الشعر في هذه الملاحق بحكم الانشغال والتخصص ولهذا سأنطلق به ومعه إلى بدايات تدوينه قبل أن ألج فيما مهدت إليه في البدء، فمنذ ورطة الانتحال التي وقع فيها الشعر أوّل التدوين ووقوعه في دائرة الشك والخلط والزيادة والنقص، لأسباب تتعلق بقدرات الذاكرة الشفوية على الاستمرار والتوثيق من جهة، وعلى المتاجرة بها من جهة أخرى بعد تواتر الأنباء عن وجود رواة كذابين كحمّاد الكذاب أو خلف الأحمر أو غيرهم.. منذ تلك الورطة والفعل الثقافي (المتموضع قديما في الشعر)، والتوثيق الكتابي متلازمان، حتى تطور الأمر ليتجاوز التوثيق إلى الشيوع والانتشار والتبنّي، وذلك بعد أن تطوّرت الطباعة في العصر الحديث، وظهرت الصحافة التي اعتمدت عليه كثيرًا أول الأمر، وعاشت الدوريات الخاصة بالشعر أو الملاحق الصحفية علاقة تلازم وتوءمة بينها وبين الفعل الثقافي المتمثل بالشعر، ترعاه ثقافيا من جهة، وتستثمر سطوته على الذاكرة العربية من جهاتٍ أخرى، وبالنظر إلى الملاحق الصحفية، كأسهل أو أكثر المنابر التواصلية مع المجتمع طوال العقود السابقة، نجد أنها احتملت التنوير وتحمّلته على مدى الخمسة عقود الأخيرة وهي الفترة الزمنية التقريبية لتحديد الهوية الثقافية الخاصة بناء على حداثة التكوين للمجتمع الثقافي المحلي، ولهذا كان لها أكبر الأثر في التأثير والتأثر بتيار الحداثة منذ أواخر السبعينيات، وهي كما أشرت فترة زمنية لا تتوخّى الإحصاء ولا التوثيق ولا حتى المنافسة بين التواريخ.. وعلى مدى هذه العقود الخمسة تقريبا ظلّت الملاحق الأسبوعية الصحفية أكبر من نشر وأكثر من قصيدة.. ومع حتمية التفاوت المنطقي بين الملاحق الصحفية الأسبوعية من حيث المواقف والحضور والثقة والتأثير والتأثر.. وعلى الرغم من أن فترة الثمانينيات أو ماقبلها بسنوات وبعدها بسنوات طبخت حتى احترقت من قبل دارسي الأدب السعودي، إلا أنه فيما يبدو ظل الأثر الصحفي وتباينه بين الصحف من المسكوت عنه في تاريخنا الثقافي ربما لحساسية لا منطقية في تناول هذا الجانب والحديث عنه بشكل تاريخي لا يكذب ولا يتجمّل.. هذه الحساسية علينا أن نتجاوزها جميعا، لأشير كأحد المهتمين بمتابعة الملاحق الصحفية الثقافية الأسبوعية منذ أكثر من أربعين عامًا إلى أن الملحق الثقافي بصحيفة الرياض (ملحق الخميس أو السبت قديما والجمعة اليوم) كان الأكثر وضوحاً وجرأة في موقفه، والأكثر تحقيقاً لوعده والأجمل التزاماً بموعده، والأوفر حضوراً بمبدعيه على مدى تاريخنا الثقافي الحديث، فلا تزال صباحات الخميس الثمانينية والتسعينية تتسرّب عبر نافذة الذاكرة، حين كانت هذه الصفحة منبراً تنويرياً راهن على الغد نبوءة ووعيا، فتحقّق كل ذلك بحضور اليوم، ولا أزال أتذاكر مع الأصدقاء ذلك الزمن الصاخب بالتشويش، والمشوّش بالصخب، حين كنا ننتظر صباح الرياض كل خميس لنمسح به ضباب المواقف المداهنة.. ومن منطقية التاريخ الإشارة إلى أن هناك ملاحق ومحطات أسبوعية ثقافية لأكثر من صحيفة ولأكثر من زمن تجاوزت في بعض المواسم في حضورها هذا الملحق إلا أن المؤثر فيها كان موسميا لا يلبث أن يتهاوى ويتداعى نتيجة افتقاده للمنهجية المؤسساتية التي قامت عليها ثقافة الرياض ممثلة بهذا الملحق الأسبوعي. لا زلت أتذاكر مع أصدقاء الزمن الجميل ترقبنا له كل أسبوع في ذات الموعد، وبذات الأفق الممتد دائما نحو المستقبل، حين كان منبر الرياض بالنسبة لنا الصوت الوحيد الواثق من رؤيته حتى وإن اختلطت الرؤيا بالأدلجة، والتفكير بالتكفير في تلك الحقبة الزمنية الثريّة بالصدامات الثقافية والمواقف الفكرية المتباينة، واليوم.. وبعد مرور كل تلك السنوات الطويلة، لايزال ملحق «الرياض» يشكل طقوسي الثقافية في صباحات القراءة الرقمية، حينما يستمرُّ معتدّا برؤيته، واثقا من موقفه التنويري، ومهيأ له كل عوامل الحضور المؤثر، والأهم من كل ذلك هو قدرته المستمرة على أن يجعل من موعده الأسبوعي طقساً قرائياً لأكثر من أربعة قرون.