قاوموا شبح السنين والعمر طوال السنين الماضية، ولا يزال البعض متشبّثاً بالحياة، ولم ينحن غصن الأمل عنده، الشوك والحُب في أغصان الحياة يتماهى الزمن فوق جبينه، أرى في عينيه الماضي والحاضر، وفوق وجنتيه هضبتين صابرتين، صامدتين، ذاك الشيخ الوقور الذي يقترب من الشيخوخة. أنظر إلى التجعدات المسترخية بوجل، أقرأ بين صخورها التاريخ أو جزءاً منه، أقرأ سطوراً من كنوز، وحروف أمل تطلّ من نافذة الدنيا لا تزال صامدة في وجه الريح. يتمشى بتؤدة، يستند إلى عكازه، أو يتأبّط ذراع صديق أو حفيد، أو يستند إلى كتف زوجة لا تزال قادرة على الصبر والوفاء لهذا الشيخ. أرى فرحاً يتهامس مع الابتسامات، يوزعها على المعوزين للأمل ومن أنهكتهم الحياة، وسعادة تبدأ نشاطها قبل شروق الشمس، تحثّ خطاها في نهار جديد. أراه يتهادى متمهلاً، كفاه تحتضنان الدنيا، ويداه تتشابكان وراء ظهره. أنحني بخشوع لا لشيخوخته فقط، بل لذاك الحلم الجميل المصرور، الذي يغنّي في ذاكرة جيل، صمد طوال السنين الماضية، ولا يزال يرفع الراية، ولم ينحن غصن الأمل، وإن كان يهتز مرة ومرات، لكنه يعود إلى شموخه. هؤلاء الشيوخ الذين قضوا حياتهم في كفاح مستميت حتى أقعدهم الزمن عن مواصلة مسيرة حياتهم، بعد أن سطروا للتاريخ بمداد من ذهب، هم خميرة لنا وللأجيال الشابة، خميرة في عجين الحياة، لا يشيخون، لأنهم محصنون بالأمل، وإن كان ضجيج الحضارة، يملأ الدنيا، فهم أوفياء للأفكار التي ناضلوا من أجلها. وعندما بدأت أتفقد الحضور، سحبت من ذاكرتي عشرات الأسماء، والصور، الذين فقدناهم وفقدهم مجتمعنا، ورحلوا، عن هذه الدنيا الفانية، وهؤلاء الباقون ينثرون عبق الماضي كغراس نظرة، هنا أسبح بذاكرة مهاجر، أصيب بلوثة الحنين، إلى الماضي التليد أدفع عجلات الشوق، أطرق الأبواب الخشبية القديمة، فتستقبلني الابتسامات الموقعة بأحزانهم وأفراحهم. تتطاير حولي، تنثر الياسمين. نظرة واحدة تتنقل بين الحضور، تتفقد الوجوه الداخلة والخارجة من باب ذاك المدرّج المفروش بالموكيت الأحمر، تزين جدرانه الشعارات والملصقات وأعلام الوطن. كل هذا يعيدني إلى السنين الماضية الى عقود نبت الشوك في بعضها وأزهر الحُب في بعضها الأخر.. وهذه هي شجرة الصبر، تتدلى منها وتتفرع أيضاً أغصان الحياة، التي تستقبل الفصول الأربعة، ولا تملّ من الترحيب والتوديع أبداً، يجب علينا جميعاً أن لا نتجاهل تلك العقول التي وضعت لنا في طريق مستقبلنا نورا يضيء لنا في مسيرة حياتنا. محمد بن أحمد الناشري