السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العالمي الثامن والعشرين للاستثمار في الرياض    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار شامل مع الشاعر المتربع على السنين وسط شموع السهرات والأحاديث الطويلة . أدونيس ل "الوسط" : تركت "شعر" لأنها تحولت إلى حزب وبعد اتمام "الكتاب" سأنصرف نهائياً عن الشعر 3 من 3
نشر في الحياة يوم 16 - 12 - 1996

"بات من غير المعقول بعد "شعر" أن نكتب كما كان يكتب أسلافنا القدامى، وأن نفهم الشعر كما كانوا يفهمونه... ومأزق ما نسميه الحداثة، أننا نكتب اليوم قصيدة النثر بالعقلية ذاتها التي كنّا انتقدناها في مجلة "شعر"". هذا ما يقوله أدونيس في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة. كما يعتبر صاحب "مهيار الدمشقي" أن ما يكتب اليوم ليس إلا تنويعاً على علاقات موجودة في الشعر العربي القديم. ويرى أن الشعر يستقيل من العالم، وأن الشعراء ينسحبون إلى شرانقهم. وصاحب "الثابت والمتحوّل" الذي يعتبر الشعر "بدايات دائمة"، يبوح بأنّه سيتركه قريباً ليتفرّغ إلى مذكّراته، ولينجز رواية عن تجربته في الحبّ وعلاقته بالنساء.
تقول إن أهميّة مجلّة "شعر" في نظرك تكمن، بالدرجة الأولى، في تغيير معنى الشعر. في أي اتجاه؟
- بات من غير المعقول بعد "شعر"، ومن غير الممكن شعرياً، أن نكتب كما كان يكتب أسلافنا القدامى، وأن نفهم الشعر كما كانوا يفهمونه. هذه في نظري أهمية مجلة "شعر" بالأساس.
بعد ذلك، يأتي كونها بشّرت بقصيدة النثر، أو ترجمت جانباً من الشعر العالمي، أو قدمت أسماء باتت مهمة فيما بعد. هذه حقيقة "شعر" التي لم يدركها الجيل اللاحق الذي التهى بنقاشات عقيمة جداً. نقاشات كانت بالنسبة إلينا ذات غاية سجالية. فحين كنا ننتقد التقليدية والكلاسيكية، كنا نخوض معركة وجدالاً. لكن قصدنا العميق كان تبديل الشعر ومعنى الشعر، فإذا كان للشعر معنى آخر علينا أن نبتكر قصائد تقوم به... هذا هو مأزق ما نسميه الحداثة، فنحن نكتب اليوم قصيدة النثر بالعقلية ذاتها التي كنّا انتقدناها في مجلة "شعر".
هل تعطي مثلاً؟
- خذ أي قصيدة نثر، من دون استثناء، وادرسها كبنية لغوية وبنية تعبيرية وبنية رؤيوية... ماذا تجد؟ أنها من هذه الزاوية تنويع على علاقات موجودة في الشعر العربي القديم. أي أن شاعر القصيدة النثرية لم يستطع أن يخترق اللغة الشعرية الموجودة عند هذا الشاعر أو ذاك في التراث العربي. ما من لغة شعرية راهنة اخترقت لغة أبي نواس وأبي تمام على المستوى اللغوي والتعبيري! إذا تأمّلت بدقة، ستجد أن هذين الشاعرين أكثر جدّة، على المستوى اللغوي والتعبيري من معظم شعرائنا الحديثين، أكثر نضجاً من معظمنا.
الشعراء القدماء يحوون بعداً ميتافيزيقياً في شعرهم: أي أن المرئي يتصل عمقياً باللامرئي، والواقع يرتبط عمقياً باللاواقع. وبهذا المعنى يرتبط الحاضر عميقاً بالماضي، مما يؤدي إلى اتصاله بالمستقبل. شعرهم كان متعدد الأبعاد، أما شعرنا فأحاديّ البعد يفتقر إلى الغنى الميتافيزيقي، الامر الذي يجعل القصائد بلا ثقل. تقرأ القصيدة فلا تحس فيها بالثقل التاريخي، بثقل التجربة وبالثقل الاستشرافي.
هل هذه محاكمة للشعر الحديث؟
- لا ليست محاكمة.
لكن في كلامك تقويماً للقصيدة الحديثة.
- لا، لا. أنا ألاحظ فقط، التقويم شيء آخر، لا نستطيع أن نقوّم بالمطلق شعراً راهناً، وحركة لا يزال أبطالها شباناً وفي أوج نتاجهم. إذا شئت قوّم تاريخياً لكنك لا تستطيع أن تفعل بالمطلق. أنا لا أحاكم هذه التجربة، فعمرها ثلاثون أو أربعون سنة، وهذه لا شيء في تاريخ الشعر. لا شيء اطلاقاً.
لكن لا يبدو على الحركة الشعرية أنها شابة!
- شابة بالمعنى الزمني.
لا. بمعنى الفتوة والنمو.
- شابة بالمعنى الزمني، لكن الشيخوخة أدركتها بالمعنى الشعري. مشكلتها العميقة، بمعنى آخر، هي الانشغال بالذات والانشغال بشكل التعبير. الانشغال بالبناء الظاهري للأشياء. اللغة قد تكون أحياناً أغصاناً جميلة، وورقاً جميلاً، ولا تكون القصيدة مع ذلك شجرة. لا تكون القصيدة شجرة الاّ إذا ضربت جذورها في أعماق كثيرة، وبات لها شخصيتها، وانتشرت غصونها في جميع الاتجاهات. شعرنا الحديث أغصان جميلة بلا جذور، هناك استثناءات طبعاً، بل هناك مفارقات كبيرة. عندنا مواهب لا مثيل لها في العالم، إذا نظرنا إلى ما فيها من حساسية شعرية وتوهّج شعري، لكنها سرعان ما تنضب، بسبب ظروف وأوضاع ثقافية وتاريخية معينة. فالمجتمع نفسه مسطح بلا عمق - هذا يحتاج إلى دراسة على حدة. لا أحس أن للكتابة الشعرية عندنا تاريخاً، ليست سوى توهج، ينتهي بعد وقت. ليست ناراً آتية من أعماق التاريخ وسائرة نحو المستقبل.
هل تعني أن الشعر عندنا مكتف بنفسه لا يستند إلى ثقافة؟
- يمكنني أن أوضح قصدي بسؤال آخر. ما الذي يجعل أبا نواس مثلاً جديداً باستمرار. كان يتكلم عن حياته الخاصة، عن أخباره والحانات والنساء. شعره كله عبّر عن حياته اليومية، وتجربته الشخصية. لكن وراء الحياة المرئية لا مرئي هائل هو المعتقدات والتقاليد القديمة. وراء الحياة اليومية سعي إلى تغيير اللغة والقيم والعادات، والتأسيس لعالم جديد. وذلك يجعل شعره فيزيقياً وميتافيزيقياً معاً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في آن واحد. هذا ما نفتقده في كتابتنا الشعرية الجديدة، لذا نجد أن الذاتي في شعرنا مجرد صراخ، والكينونة الاجتماعية التاريخية التي نشأ فيها الذاتي مفقودة.
إذا أوكلنا للشعر أن يتجاوز نفسه، وأن يكون بحد ذاته ثقافة كاملة... إذا أوكلنا للشعر أن يكون مقابلاً للوجود وعارضناه بالحياة والواقع... إذا أوكلنا إليه توحيد الثقافة وتوحيد التاريخ، ألا نحوله إلى "يوتوبيا" مستحيلة.
- الشعر دائماً على حدود الاستحالة. ليس عندي سوى نموذجين لمقاربة العالم: نموذج الفعل، أن تكون لينين مثلاً أو ماوتسي تونغ، وتبني المجتمع مادياً. ونموذج الشعر، أن تبني العالم شعرياً. ما من نموذج آخر. يجب أن نضع الشعر في هذا المستوى.
لماذا تركت "شعر"؟
- لأني، كما قلت ليوسف الخال، شعرت بأن المجلة تتحول إلى حزب شعري. إلى معارضة لتاريخ بأكمله. ضاقت وتحيزت وتوقفت عند هموم في عمقها غير شعرية. هموم من خارج الشعر، بينما كان عليها أن تحتضن التاريخ الذي تتحرك فيه بكامله، فلا تنعزل عنه. كان عليها أن تحتضن التاريخ والحضارة بكليتهما، فتبقى حركة وتياراً بدلاً من أن تنصب خيمة لها تنزوي فيها. حصل انفصام بين واقع المجلة والدوافع العميقة التي تشدني إليها، هذا إضافة إلى الأسباب المعهودة التي تعصف عادة بكل التجمعات. المنافسات والغيرة والحسد والاختلافات. وهذه لا تنفرد بها جماعة "شعر"، فهي من سيماء كل التجمعات في الدنيا. لكن السبب العميق لانفصالي هو احساسي بأنها تنزوي، وعالمها يتقلص، وتخرج من حلبة التاريخ.
من جملة ما ذكرته يبدو التنبّؤ مثابراً في شعرك؟
- الشعر سابق على التنبّؤ بالمعنى التاريخي، لكن الأوّل فيه شيء من الثاني. في كل علاقة كيانية وعميقة بالوجود، وحتى في الحب نفسه، نوع من التنبّؤ.
هل الشعر يغيّر؟
- إذا كان القصد تغيير ما في الواقع، فالشعر طبعاً لا يغيّر. لكنه يغير على نحو غير مباشر. حين يعيش الانسان الرؤية الشعرية، والعلاقات التي تقيمها بين الانسان والعالم، فإنه نفسه يتغير. وإذا تغير فإنه قد يؤثر في الواقع. بهذا المعنى يمكن للشعر أن يغيّر.
هل يصح أن يكون الشاعر مجرد شاهد أو مراقب؟
- يمكن للشاعر أن يكون شاهداً ومراقباً. المهم كيفية المراقبة وكيفية الشهادة. هل هي شعرية أم لا؟
أما زلت تعتقد أن للشعر فاعلية "التدمير اللغوي"، علماً أن هذه قد تكون فاعلية الرواية؟
- التدمير اللغوي فهم فهماً شكلياً وخارجياً. كأن نتعرض للقواعد، أو ندخل كلمات غير مستخدمة، ولا نتقيد بالنسق الكلاسيكي للتعبير. أعتبر هذا التدمير خارجياً وبرانياً وبلا أهمية على الاطلاق. بل هو مجرد زيّ وموضة، كما فعل كونو مثلاً بالرواية الفرنسية. قلت مرة لجان جينيه: حياتك وتجربتك يفرضان أن تكون إلى جهة رامبو وسيلين، أكثر مما تكون إلى جهة مالارميه. فأجاب: "سيلين بات اليوم قديماً وشاخت لغته، لأن هذا النوع من التعامل مع اللغة يتجاوزه الزمن، وتلحقه بالضرورة تدميرات أخرى للغة أو لغة جديدة. بينما يمر الزمن على لغة مالارميه وهي حية نابضة. شئت أن أكتب بلغة تخرّب البنية العقلية البورجوازية، ولم تسعفني لغة رامبو في ذلك، أما لغة مالارميه فمن داخل تلك البنية، وتخرّب في الداخل، لذلك أنا شاعر مالارميه لا رامبو".
واستطراداً فهمت أن كل تدمير من هذا النوع للغة يضيق ويتجاوزه الزمن. التدمير الذي كنتُ أنا أقصده أساساً، وأسأت التعبير عنه، هو أن تغسل اللغة باستمرار من أحشائها القديمة. تغسلها بكاملها وتعطيها سياقات جديدة ودلالات جديدة، تجعل فيها من نفسك . بهذا المعنى تتدمر اللغة باستمرار استناداً إلى رؤية، لا استناداً إلى لعبة. ولذا فإن كلّ شاعر مدمّر لغة. رامبو دمر اللغة في حين أنّه كان كلاسيكياً عظيماً، وكذلك بودلير ومالارميه. غيرّوا اللغة من دون أن يكتفوا بلعبة برّانية.
من هنا أنّك لا تحب الروايات؟
- لا، لذلك في الغالب أسباب أخرى. لا تزال الرواية العربية تفتقر إلى البعد الشعري في رؤية العالم والأشياء، لا يزال السرد تابعاً للحدث وهذا يجعل الزمن بلا ضرورة. أحس أن الزمن في الرواية العربية رخو، ممل. وأنا بحاجة إلى زمن حيّ، كثيف، متوتر، يناسب اللهب الداخلي الذي فيّ. هناك في بعض الروايات هذا الزمن الحي المتوتر، والعلاقة بالاحداث تغدو، في هذه الحال، شعريّة في الأساس.
إذا كان مرجع التدمير اللغوي هو المحكي، اللغة الشفوية. فإن هذا لم يحصل في شعرك. ما هو مصدر هذا التدمير اللغوي إذاً؟
- أولاً المحكي لا يدمر اللغة. يدمر صيغاً فصيحة، لكنّه لا يدمر اللغة، لأن البيئة اللغوية العميقة للفصحى هي ذاتها في العامية والعكس بالعكس. فهنا وهناك تقف البنية العقلية ذاتها وراء اللغة. وإذا عدت إلى العامية، تستبدل صيغة بصيغة ولا تدمر اللغة. اللغة اليوم هي أن تخلق عوالم وابعاداً وعلاقات جديدة بينك وبين العالم والأشياء. الرواية أيضاً لا تدمر اللغة، إنها تقدم صورة أخرى للواقع، فهي اعادة انتاج وليست تدميراً.
اقترن اسمك باسم امرأة عاشت معك في الحياة والثقافة...
- بمقدار ما يحرجني الكلام على نفسي، يحرجني الكلام على خالدة التي هي جزء مني وأنا جزء منها. نحن الاثنان واحد. لأننا في رفقة تتعدى الزواج إلى مجالات أخرى كثيرة. رفقة حياة كاملة. أمضينا معاً نصف قرن تقريباً. وكنا تقريباً شخصاً واحداً في جميع أفراحي وآلامي وعذاباتي ونتاجي. وكما يصعب أن أخلق مسافة بيني وبين نفسي لاتحدث عنها، يصعب أن أجد مسافة بيني وبين خالدة لأتحدث عنها.
لكنك تذكر كيف التقيتما؟
- التقينا في بداية الخمسينات، في دمشق. كانت تلميذة في "دار المعلمات"، وكنت أنا في بداية سنتي الجامعية الأولى. تعارفنا بفضل سيدة ممتازة، وأحب الآن أن أرفع لها تحيّة أولى لإنّها امرأة جميلة وحيوية، وسيدة من سيدات دمشق البارزات... وتحيّة ثانية لإنّها عرّفتني بخالدة... وثالثة لأنها احتضنتني وساعدتني ومهدت لي الأجواء الأدبية في دمشق... فأنا مدين لها بالكثير. هذه السيدة هي الراحلة عبلة خوري. كنت انذاك مأخوذاً بالمستقبل، بأن أخرج مما أنا فيه ومن ماضيّ لأخلق زمناً آخر تستطيع هواجسي واندفاعاتي وتطلباتي أن تجد مكاناً فيه. تعرفت إلى خالدة، فدخلت رأساً في هذا الجو، صارت فيه بمثابة جسر ومثابة رمز.
هل يمكن أن نعتبر هذا كلاماً عن الحب؟
- تكتشف من هذه الانشقاقات، بعد التكامل، أن الحب ليس جواباً. الحب أفق بديع ومدهش، لكن ينقصه في أحيان كثيرة بعد عمودي. بالنسبة إلي لا يكون الحب جواباً حتى يكتمل بالعملية الابداعية. هكذا يختلط الحب بالفن.
ماذا عن السفر؟
- السفر، بالنسبة إليّ، هو سفر داخل الذات. سفر في الزمن أيضاً. وما أراه في سفري الخارجي لا يعنيني، إلاّ بقدر ما يجعلني أرى أشياء أخرى خارج المرئيات المباشرة. السفر في الظواهر ليس بالنسبة إليّ، الاّ محاولة للغوص في أعماق العالم.
تبدو سعيداً بالفعل، بعيداً عن كل المشاكل؟
- أرجو أن أكون كذلك.
أنت فعلاً هكذا.
- نعم. أنا هكذا فعلاً.
هل هناك محل آخر للسعادة غير وفاقك مع نفسك؟
- كان مساري عاصفاً، وأسيء فهمه ولا يزال. لكني أثق بما قمت به حتى الآن وبما أقوم به. مساري يعبّر عني تمام التعبير ولا أظنه خاطئاً كله. أنا غني بأصدقائي خصوصاً، وهذا الغنى لا يعوّض ولا مثيل له. صحيح أن الخبرة بالعالم والناس تغني، لكن الانسانية العميقة القائمة على الصداقة لا مثيل لها، إذ انها بمستوى الماء والهواء والضوء.
هل هو النجاح، أم شعورك أن أثرك قارب الاكتمال؟
- هذا أقل ما يعنيني. فمهما اكتمل الانسان، سيجد - إذا كان وعيه حقيقياً - أنّه لم يفعل شيئاً بعد. عظمة الشعر أنه بدايات دائمة.
تكلم سارتر في آخر أحاديثه عن الفشل.
- الفشل جزء طبيعي من كل مغامرة كبرى. حين تنجح في ميدانها فهذه ذروة فشلها من دون شك. الابداع بهذا المعنى هو اعظم فشل في التاريخ.
حدّثنا أكثر عن الموت؟
- في كل عمل، وكل ممارسة كبرى، نوع من الموت. أعتقد أننا نعيش الحياة موتاً، أو بمعنى آخر نعيش الموت حياة، يعني الموت حاضر في كل نفس من نفوسنا.
هل تكتب بشكل يومي؟
- عادتي أن أعمل على كتابات مختلفة في الوقت نفسه. كأن أكتب قصيدة ويوميات وبحثاً معاً. أكتب في هذا وتلك بحسب مزاجي، أمرّ بأمزجة متعددة في النهار الواحد، وأغير عملي وفقاً لذلك. أتنقل بين جانب من قصيدة، وجزء من يوميات، وفقرة من بحث في الوقت نفسه تقريباً.
هل تكتب كل يوم؟
- إذا لم أكتب أقرأ. القراءة بالنسبة إليّ هي الغوص في كتاب يطرح عليك أسئلة - أياً كان مؤلفه - كتاب يذكرك بأسئلة أو يفتح لك أفقاً.
هل تثير القراءة رغبة في الكتابة؟
- تثير رغبة في الجواب عن أسئلة كامنة في نفسك، حرضتك عليها قراءة الكتاب.
وتحريك الكامن يحرّضك على الكتابة؟
- بهذا المعنى، نعم.
حين تكتب مؤلفاً شعرياً طويلاً، هل تقرأ شعراً في الفترة نفسها؟
- كلا.
تتوقف عن قراءة الشعر؟
- أقرأ كتباً في التاريخ والفلسفة والحضارة. في المناسبة، قراءتي للشعر ضئيلة، إذا قيست بقراءاتي الأخرى. أخجل من الاعتراف بأن هناك شعراء كباراً لم أقرأهم.
هل تحسّ أن الشعر نادر في هذه الفترة؟
- ليس في العالم العربي وحده. في العالم كله، نادر جداً.
هل يعني هذا أن ثمة مشكلة في الشعر؟
- لا أتصور أن المشكلة في الشعر. هناك أزمة، بالتأكيد، على مستوى الشعر. لا بسبب علاقته بالقارىء ولا من جرّاء ظهور التقنية والصورة والرياضة. أزمة الشعر هي في الشعر نفسه، الشعر يستقيل من العالم بشكل أو آخر. قد يكون على حق. لكن هناك استقالة من العالم ومن مشكلات العالم. الشعراء يصنعون شرانقهم ويصرخون وينسحبون إلى داخل هذه الشرانق. والشعر في هذه الحال نوع من اللعب. لعب لغوي أو لعب ذهني، وحين يغدو الشعر لعباً يدخل في مباراة ضخمة، لأن العالم كله لعب، ويضيع فيها. فالقارىء عندئذ سيفضل الألعاب الأخرى، العملية واليدوية والجسدية الحية، على اللعب الذهني واللعب اللفظي. أزمة الشعر إذاً في ذاته، ولا يمكن للجماهيريّة طبعاً أن تنقذه من هذه الأزمة، ولا شعر الخطب يمكنه ذلك، فهو بحد ذاته اعاقة للشعر الحي.
المجلد الثاني من "الكتاب" هل له خطة تختلف عن الأول؟
- سيكون مختلفاً من حيث التشكيل والبناء، وأعتقد أنه سيكون أكثر حيوية وأكثر غنى أيضاً.
سيكون أكبر؟
- أكبر في الحجم أيضاً.
هل تجد أنك بهذا العمل تصل بمشروعك إلى أكثر أشكاله تكاملاً؟
- أعتقد ذلك. سيكون هذا الكتاب آخر ما أكتبه شعراً. بعد اتمام المجلدين الباقيين سأنصرف نهائياً عن كتابة الشعر إلى كتابة أشياء أخرى: مذكراتي وروايتي التي لم أكملها. عنوان هذه الرواية سيكون على الارجح: "هي، هن، أنت"، إنّها عن تجربتي في الحب وعلاقتي بالمرأة. وأنا أميل إلى طبعها سريعاً، أفكر في نشرها مع المجلد الثاني من "الكتاب"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.