هل كنت تظن عزيزي القارئ أن ثمة تماثلا بين استهلاك الأفراد للسلع والخدمات ورعي الماشية؟ نعم هناك ما يجمع بين استهلاك الماشية واستهلاك البشر، كما ذهب دارس البيئة البشرية بجامعة كاليفورنيا غاريت هاردن (Garrett Hardin) في مقالة نشرت في مجلة ساينس (Science) في العام 1968 بعنوان «مأساة المشاع» (tragedy of the commons)، نال عنها جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية مناصفة مع العالم أوليفر وليامسن (Oliver Williamson) في العام 2009. ففي تفسيره لنهاية المشاع ومضاره والانتقال إلى المِلكية الخاصة وفوائدها، كما تخيلها عند الرعاة البدائيين، يرى هاردن أن الأرض تعيل عددا محدودا من الماشية، وطالما أن الحرب والمجاعة والمرض أبقت الرعاة والماشية دون هذا العدد، فلم تكن ثمة مشكلة. لكن مع نمو المجتمع في الاستقرار والصحة، تجاوز عدد الحيوانات قدرة الأرض المشاع على التحمُّل. وتكمن المأساة في أنه طالما كان بمقدور كل راعٍ أن يزيد منفعته بزيادة عدد ماشيته حيوان واحد في الأرض المشاع، ولا يناله إلا نصيب صغير من التآكل المتزايد للأرض الناتج عن هذا الحيوان الزائد، فإن الراعي سيسيم أكبر عدد ممكن من الماشية في هذه الأرض المشاع، أيا كان الضرر الذي سيلحقه بالمجموع. وخلُص هاردن إلى أن الحل الوحيد لهذه المشكلة تمثَّل في حقوق المِلكية أو شيء رسمي يشبهها. من تطبيقات هذه الفكرة على استهلاك السلع والخدمات، ما يمكن أن نسميه - اتباعا لهاردن - «الرعي الجائر للطاقة الكهربائية» و«الرعي الجائر للتأمين الصحي» وغيرها الكثير. ففي حالة استهلاك الكهرباء مثلا، عندما يكون هناك عداد كهرباء واحد مشترك لأكثر من وحدة سكنية (شقة)، فإن ذلك يعني أن الاستهلاك الزائد من إحدى هذه الشقق، وما يعنيه من فائدة زائدة لها، ستوزع نتيجته السلبية المتمثلة في قيمة استهلاك الكهرباء الأعلى على الشقق كلها. وبعيدا عما ينطوي عليه ذلك من ظلم للبعض، فإنه يشجع تسابقا في استهلاك الكهرباء، أو على الأقل لا يكبح هذا الاستهلاك، طالما أن الزيادة في الاستهلاك لن يتحملها كلها المستهلك الذي استفاد نها. فإذا كان استهلاك الكهرباء لن يعود كاملا على هذا المستهلك، وإنما سيشاركه في تحمله السكان الآخرون المشتركون في نفس عداد الكهرباء، فلماذا إذن يقتصد هذا المستهلك أو ذاك في استهلاك الكهرباء؟ ولماذا لا يشغل المكيفات المنزلية حتى في الأجواء التي لا تتطلبها؟ ولماذا يحرص على إطفاء الأنوار نهارا وفي الغرف والأماكن غير المستخدمة؟ ولماذا ينظم استخدام المكنسة الكهربائية وغيرها من الأجهزة المنزلية؟ لكن في المقابل عندما يكون لكل وحدة سكنية عداد كهرباء خاص بها، وتكون - بالتالي - أي زيادة في الاستهلاك عائدة كلها على المستهلك، فإنه سيوازن بين العائد من تشغيل هذا الجهاز الكهربائي أو ذاك والزيادة في قيمة استهلاك الكهرباء التي سيتحملها وحده، وسيكون قراره العقلاني - غالبا - هو الاقتصاد في الاستهلاك بغرض خفض ما يتحمله من فاتورة. لذلك ستجد استهلاك الكهرباء لشقتين متماثلتين في المستوى الاجتماعي، وبالتالي نوعية وعدد الأجهزة الكهربائية في كل منهما، يتفاوت بشدة، بالطبع لصالح انخفاض الاستهلاك للشقة ذات العداد المستقل عن الشقة ذات العداد المشترك. د. مصطفى قاسم