بادئ ذي بدء أرفع أحرّ التعازي إلى مقام مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وإلى سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، وعموم آل سعود الكرام والشعب السعودي والعالم العربي قاطبة بوفاة فارس الكلمة ومهندسها صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته. برحيل البدر يُسدل الستار على مسيرة شعرية عظيمة عطرة عبقت بشذاها الأخاذ كل الأجواء وتغنّت بروعتها الأجيال تلكم المسيرة التي رسمت للقريب والبعيد لوحات إبداعية عبقرية غير مسبوقة وأتت بما لم يأتِ به الأوائل. لم أتجاوز العقد الأول من عمري عندما شدا فنان العرب محمد عبده - شفاه الله - لأول مرة برائعة البدر الخالدة (فوق هام السحب) خلال حفل افتتاح دورة الخليج العربي التاسعة لكرة القدم الذي تزامن مع افتتاح استاد الملك فهد الدولي بالرياض عام 1408ه / 1988م وضمن فعاليات البطولة دعا صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - رؤساء البعثات الرياضية المشاركة واللاعبين والأجهزة الفنية والإدارية والإعلاميين إلى حفل فني ساهر أقيم على مسرح جامعة الملك سعود حيث شارك في الحفل نخبة من فناني المملكة والخليج والوطن العربي واختُتم الحفل بأغنية فوق هام السحب حيث تفاعل جمهور المسرح بأكمله معها في مشهد تاريخي لا يُنسى، بعدها بفترة قامت شركة آرا للإنتاج الفني بإصدار فيديو مصوّر للأغنية وقد نجح المخرج الكبير الأستاذ محمد مقبل العتيبي في انتقاء اللقطات المناسبة لكلمات الأغنية وفي مقطع (من على الرمضا مشى حافي القدم يستاهلك) تظهر صورة شخص يمشي في الرمل وتغوص قدمه فيه، هذا المشهد استثارني فتوجهت للرمال المحيطة بمزرعة سيدي الوالد رحمه الله في بلدتنا ملهم فقمتُ بتقليده فخلعت حذائي - أجلّكم الله - ومشيت على الرمال حتى غاصت قدماي فيها وكأن المعنى قد وصل لأعماقي كطفل في ذلك الوقت، وفي عام 1409ه / 1989م صدر الديوان الشعري الأول للبدر وكان بعنوان (ما ينقش العصفور في تمرة العذق) احتوى على مجموعة من القصائد العامية والعامودية والحُرّة وقد اشتراه أحد أشقائي الكبار وشاهدته في مجلس مزرعتنا في ملهم وقبل الحديث عن قصتي مع غلاف الديوان يَحسنُ بي استذكار بعض أجزاء القصيدة التي قال البدر في مطلعها: الصدق.. ما ينقش العصفور.. في تمرة العذق وما وشوش الدبور.. زهرة الرمان والصدق.. ما زاعت أرض جوفها بركان وما يحفر الأظفر في جلدة المجدور وش يخفي الإنسان.. الطيب.. المغرور عضيت أنا أجساد الحروف الواضحة يا أخت الطريق.. عضيتها صدق الشفاه الناضحة شهد و شري.. وكان الحديث.. جرحٍ طري مضمد بالياسمين كان الحديث.. ماهو الحديث اللي تبين وش اللي تبين الصدق..؟ وش الصدق؟! غير الدفا والنور.. (إلى آخر القصيدة) وبحكم المرحلة العمرية قرأت بعض القصائد وتركت البعض الآخر لصعوبة فهمها علي في ذلك الوقت غير أن أكثر ما لفت انتباهي هو طريقة كتابة اسم "بدر بن عبدالمحسن" على غلاف الديوان حيث بدت فعلاً كنقش منقار عصفور.. ومرةً أخرى كانت رمال مزرعتنا في ملهم مسرح المحاكاة بالنسبة لي لإنتاج البدر الفكري فقمت بسكب الماء على جانب من الرمال ثم أخذت قطعة من عسيب إحدى النخيل ونقشت اسم البدر عليها؛ ولن أنسى رائعة (هَلَ التوحيد) التي كتبها البدر خلال فترة احتلال الكويت وشدا بها فنان العرب محمد عبده والتي يقول في مطلعها: دارنا مثل العروس وكلّنا خطّابها، كما أذكر بالشكر والامتنان لسموه الكريم رحمه الله استحضاره لبلدتي (ملهم) في أوبريت افتتاح المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية (أئمة وملوك) عام 2018م في لوحة الإمام محمد بن سعود (الفنان راشد الشمراني) عندما يتقدم إليه شابان فيسأل الإمام عنهما (من ذولي عياله؟!) فيجيبه مرافقه (الفنان علي إبراهيم) بأنهم (عيال سعد بن حمود راعي ملهم). لم يكن الراحل الكبير مجرد شاعر بل كان مدرسة فكرية جامعة أخذت بمجامع قلوبنا وتألقت أفكاره في كافة الأعمال لتنساب على أرواحنا بصدق ولسوف تبقى مهما تقادم الزمن وأنا على يقين بأن الأجيال القادمة ستغبطنا كثيراً لأننا عشنا في عصر بدر بن عبدالمحسن "رحمه الله".