الذي يكتبُ عن بدر بن عبد المحسن تماماً كالذي يكتب عن الحب والجمال والإنسان والتطوُّر والرُّقي. منذ البدء كان الحب، فكان الشعر، وقبلهما كان الإنسان. كان الشاعر (الجاهلي) المنخل اليشكري يقول: وأحبها وتحبني .... ويحب ناقتها بعيري! وعندما (تمدّن) العرب، وانتقلوا إلى حياة الاستقرار الدائم، جاء من يصف هيامه بعشيقته، بدلاً من كونها ضرباً من ضروب عشق (الناقة للبعير) كما كان يراها قبلاً، ذهب إلى (تجزئة) محاسنها بصفاتٍ لأشياء (جميلة) وجديدة يراها أمامه في (المدينة) .. يقول: فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبردِ ثم (كتب) نزار: الحب في الأرض بعضٌ من تصورنا .... لو لم نجده عليها لاخترعناه أما بدر بن عبد المحسن فارتقى بشعرنا من (غزل المراهقين) إلى (الأنسنة) في أجمل وأعذب صورها، واللغة إلى (العامية) المعاصرة المتمدِّنة، عندما (كتب) ذات إبداع وتجاوز عن (مرزوق): في كل الصحاري الاوّله الوقت سيارة تجري، والدنيا في الشارع! .. ما هو زمن مرزوق! .. كيف يقدر يصارع؟ .. هذا الحديد .. الناس .. لا هو يعرف يسوق .. ولو يقطع الشارع .. يخاف لا ينداس..! وكتب: الصدق .. ما ينقش العصفور في تمرة العذق.. وما وشوش الدبور في زهرة الرمان.. والصدق.. (ما زاعت) أرض جوفها بركان.. وما يحفر الأظفر في جلدة المجدور.. وش يخفي الإنسان .. الطيّب .. المغرور وكتب: يا ضاربٍ في الصخر بذراع اجرد بين بياض العظم ما فاض هداج ويا ضايع في غابة الحبر الأسود ضاع العمر ما جبت حرفين من عاج أشعلت جمر وأحرقك لين رمد واليوم تبني حوله ضلوعك سياج وكتب: الحمل ما هو اللي تشيله كتوفي الموت لا صارت كتوفي هي الحمل! وكتب: مالي إبل أرجوك مالي نخيل .. لا نصل ولا حافر.. تعبت من صوت العروق المبطيه.. ومن صمتي الفاجر.. وكتب: وقتنا دايم يجي ف الزمان اللي يروح .. وان سألتيني أحبك .. كثر ما تشفى الجروح..! اشطبيني الف ذكرى .. واكتبي.. اللي (يتذكر) .. غبي! واللي (ما ينسى) غبي! ودي اشوفك .. باقي لحظة هذا كل اللي أبي..).. بدر عندما يكتب الشعر تتحوَّل الريشة بين أصابعه إلى فرشاة وألوان، وتتحوَّل الكلمة إلى نفحة عطر تسبح مشاعرك في عبقها، وتسمو اللغة لتصبح هي معاناة الإنسان، أو معاناة الإنسان هي، لا فرق .. هو لا يكتبُ أدباً فقط، إنّما يؤرِّخ، ويفلسف، ويشرح، ويفكر، ويقدّم في لوحاته الشعرية رؤية إنسان عصره، وأسئلته، وقضاياه، التي يُسقطها على الشعر ليقول ما يعجز أيّ كاتب أن يقوله: يا سيدي والله ما اشوف الانداد ... أنا وحيد الشعر ما خلق ثاني! إنّها (نرجسية) الشاعر في أجمل تجلياتها، لغة وسبكاً ومعنى. كنتُ أقول، وما زلت، أن بدراً ليس مجرَّد شاعر، إنّما (ظاهرة حضارية) في صحراء يحتضنها الجفاف من كلِّ جانب؛ بدر لا يكتب شعراً موزوناً مقفى، أو غير مقفى، فحسب، وإنّما يطرح (ثقافة) عصره، التي يراها بعين المفكِّر وبعين الفنان معاً. لذلك فالذي يقرأ بدراً هو معنيٌّ - كي يفهمه حقاً - بالغوص في ما وراء السطور، وما وراء التعابير المباشرة. يجب أن (يرتقي) إليه كي يقرأه، ويفك معاني لوحاته الشعرية بمتعة ما بعدها متعة؛ فقراءة بدر (تحتاج) إلى أهلية ثقافية، وذوق وفن ورقي وتحضُّر، يستحيل على الإنسان (المسطح)، أن يتناغم معه، أو تحرِّك لوحاته مشاعره (المتكلسة). (اللي يتذكر غبي .. واللي ما ينسى غبي..).. إنّها تلك الرقاب (المعوجة)، التي تتجه دائماً إلى (الذكرى)، إلى الخلف، وإلى الوزراء دائماً، إلى التاريخ لتتقوقع في أمجاده، وتنسى حاضرها ناهيك عن مستقبلها .. لا يمكن أن تقرأ بدراً، وتتفاعل مع بدر، وتعي ما يقول، إلاّ بهذا (العمق) لتعرف مدى تمكُّن هذا الشاعر من أدواته، ومن رؤيته لعصره، وكيف (يكتب) زمنه بأتراحه وأفراحه، بتحضُّره وتخلُّفه، تماماً كما هو.