مقالة اليوم تسلط الضوء على آسيا بنت مزاحم -رضي الله عنها- والمعروفة في تاريخنا العربي والإسلامي بلقب امرأة فرعون، ويمكن استلهام الكثير من الدروس القيادية من سيرتها ومنها: قوة الإقناع والتفاوض: كانت آسيا -رضي الله عنها- شجاعة ومبادرة في اتخاذ القرار بالتقاط موسى عليه السلام وتبنّيه رغم معرفتها بأن ذلك يتعارض مع تعليمات فرعون بذبح أبناء بني اسرائيل. اللافت للنظر أنها لم تخف وكانت واثقة وعملت على التفاوض وإقناع فرعون بلغة لينة ومحاولة إيصال رسالة بأن هذا الطفل قرة لكليهما وليس لها فقط! بالإضافة إلى الأمل بأن ينفعهما وإمكانية اتخاذه ولداً لهما. ففي كل هذه الرسائل محاولة لإقناع فرعون بالفائدة له أيضاً من قرار التبني. وهذه كلها دروس رائعة في عالم التفاوض والقيادة التي تتطلب تواصلاً فعالاً وقدرة على إقناع صناع القرار بالمقترحات والأفكار. الصبر والمداهنة: لم تكن العلاقة بين فرعون الطاغية وامرأته المؤمنة سهلة على آسيا -رضي الله عنها-. ونستدل على ذلك من مسمى امرأة فرعون وليس زوجة! ففي حال كانت العلاقة الجسدية قائمة ومبنية على محبة ومودة بين الذكر والأنثى فتكون تسميتها "زوجة"، أما إذا كانت العلاقة جسدية فقط دون توافق أو انسجام فيطلق عليها "امرأة"، وهذا هو سبب تسميتها امرأة فرعون، والأمر نفسه ينطبق على "امرأة نوح" و"امرأة لوط" بسبب الخلافات الإيمانية بينهن وبين أزواجهن. وبالعودة إلى آسيا، فلا شك أنها تحملت كثيراً وكانت تملك ذكاء عاطفياً وذكاء اجتماعياً ساعداها على بناء رصيد من الثقة وحسن العشرة، ووجود هذا الرصيد ساعد آسيا على إقناع فرعون بتبني موسى عليه السلام، لك أن تتخيل كيف كان الحال سيكون لو كانت العلاقة بينهما مكهربة ومضطربة، ورغم أن الحديث هنا عن شخصين يرتبطان بعلاقة زواج، إلا أن هذا المبدأ من الصبر وحسن التعامل يمكن تطبيقه حتى في العلاقات المهنية بين الرئيس والمرؤوس وزملاء العمل والشركاء. اصنع نجاحك الخاص: آسيا لم تكن قائدة عسكرية تخوض المعارك، ولم تكن داعية إصلاحية تهدي الأمم، ولم تكن شخصية سياسة قادت التنمية، بل إنها لم تتمكن من هداية زوجها، ومع ذلك وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بواحدة من القليل جداً من النساء اللاتي بلغن الكمال، وضرب الله عز وجل بها المثل في القرآن الكريم للذين آمنوا. وهنا عبرة عظيمة بأن لكل انسان قصته ومعركته وطريقته في النجاح، فلا يمكن استنساخ قصص التميز والتفوق للجميع بل لا بد من تفهم أن الظروف تختلف والتحديات والقدرات والإمكانيات تتباين، وما صنعته امرأة فرعون بتبني موسى عليه السلام والصبر على طغيان فرعون كان يعدل وربما يتجاوز ما صنعته شخصيات نعتبرها كبيرة جداً وعظيمة في موازيننا البشرية العادية. الثبات على القيم: قد تكون من أهم الدروس التي نتعلمها من امرأة فرعون أن المبادئ والقيم لا تشترى ولا تباع حين تركت قصور فرعون وجاهه ورغم تعذيبه لها وقتله لها برمي صخرة كبيرة عليها إلا أنها ثبتت واختارت في دعائها جوار رب العالمين قبل أن تطلب الجنة. وهذا الامتحان الذي قد يبتلى فيه الكثيرون بين المبادىء وبين الأموال والشهرة والمناصب التي ستزول وقد تنقلب على صاحبها نقمة وبلاء، وهذا الثبات قد يكون في الشجاعة في الدفاع عن حقوق الموظفين الضعفاء أو رفض فساد أو ظلم من إدارة عليا مهما كانت العواقب التي قد تترتب على ذلك. لا تنتظر التقدير من الجميع: رغم كل هذه المكانة العظيمة والتضحيات من آسيا بنت مزاحم -رضي الله عنها-، لا تعترف الروايات الحالية في كتب الإنجيل والتوراة بها ولا تذكر اسمها، بل تمنح شرف التقاط موسى عليه السلام وتربيته لشخصية اسمها "بتياه" ومعروفة لديهم بأنها ابنة فرعون، ومع ذلك فلا يضر ذلك آسيا -رضي الله عنها- بشيء، ويكفيها تكريماً ذكر الله عز وجل لها في سورة التحريم في قوله تعالى:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا للَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. وهكذا حال الإنسان المخلص الذي قد يجحد جهده الجاحدون ويسرق إنجازاته السارقون ويشوه سيرته الحاقدون ولكنه مع ذلك كله ثابت في مسيرته مخلص في نيته لا يرجو من أحد جزاء ولا شكوراً إلا من رب العالمين. وختاماً، هلاك فرعون ذي الأوتاد وخلاص بني إسرائيل الذي استضعفوا في الأرض بدأ بالتقاط امرأة فرعون لتابوت موسى عليه السلام وهو رضيع صغير من اليم، لذلك لا تحقرن أي عمل صغير أو معروف أو إحسان مهما بدا لك دون قيمة، فكلمة طيبة أو ابتسامة عابرة أو تعامل لطيف أو قرار منصف أو منشور مفيد قد يحدث تغييراً كبيراً ويصنع أثراً إيجابياً يدوم ويبقى ينفع الناس سنوات طويلة -بإذن الله- بإخلاصك وصدق نيتك.