لا يغفل على الرحالة والمستشرقين الذين زاروا مصر منذ العصور الوسطى باكتشافهم اختلاف الحياة العامة للناس في شهر رمضان المبارك، وأثار دهشتهم من العادات وأطباعهم خلال فترة رمضان، حيث كان يتولد الفرح مع استطلاع رؤية هلاله والحزن مع قرب انتهاء الشهر، لذلك جاءت كتابات الرحالة والمستشرقين حافلة بشهادات ورؤية ترسخت صورتها منذ القدم في تاريخ الحياة حتى وقتنا الحالي والدقة في وصفهم في الوقت ذاته. ولم يبالغ الرحالة الأيرلندي ريتشارد بيرتون في حديثه عن الأجواء والطقوس الرمضانية، حين زار مصر عام 1853م ووصف إقامته في القاهرة والاحتفال بشهر رمضان هناك، فيذكر أن مختلف الطبقات تراعي شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد رغم قسوتها، فلم أجد مريضًا واحدًا اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته، وأضاف حتى الآثمين الذين كانوا قبل رمضان اعتادوا ارتكاب الذنوب تركوا ما كانوا فيه من إثم فصاموا وصلوا، ويذكر أن الأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذي يغلف طباعهم، وعند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات، بينما البعض منهمك في صلاته وتسبيحه، بينما آخرون يتجمعون في جماعات أو يتبادلون الزيارات لقتل الوقت حتى يحين ميعاد الإفطار، فتنتظر لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلاً، داعيًا الناس للصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس باشا الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة وعن طرائق قضاء أمسيات رمضان، يذكر بيرتون ثمة طرائق عديدة عند المصريين أنها تزدحم الشوارع بحشود من القرة قوز والمهرجين، وينخرط كثيرون في المسرات، بينما يتخذ الناس مشياً حاملين في أيديهم غلايين التدخين المعتادة ويتسوقون فالأسواق تظل مفتوحة حتى ساعة متأخرة أو يجلسون متزاحمين عند مداخل المقاهي يدخنون الشيشة ويثرثون ويستمعون لحكايات الرواة والمغنين والوعاظ المتجولين بالإضافة إلى قبل منتصف الليل بحوالي نصف ساعة ينادي المؤذن «بالأبرار» وهو دعوة للصلاة، ففي مثل هذا الوقت يعود الناس الذين تعودوا السهر إلى بيوتهم استعداداً للسحور. الكتاب: الصيام في الحر والتدين المغشوش / المؤلف: مجاهد خلف