كان متخبطاً بين نصوص ومواقف فلسفية وفكرية متضاربة، إلا أن فيكو مع ذلك ظل "متطلعاً إلى منهج جديد يمكّنه من إزاحة الستار الذي كان يحجب عنه حقائق الإنسانية الأولى، ويجعله يقرأ بواسطته أفلاطون وأرسطو قراءة جديدة تتوافق مع الحقائق التاريخية والطبيعية التي عاشها الإنسان البدائي"، ولعل هذه العصامية القرائية نالت من صحته الضعيفة وموارده المحدودة. هذه لقطة من مقدمة المترجم المكين الدكتور أحمد الصمعي لكتاب العلم الجديد ل جيامباتيستا فيكو المولود في نابولي عام 1668. والذي حملني على البدء بمثل ما سلف، رغبتي في التأكيد على أهمية صوغ المقدمات في النصوص المترجمة والمؤلفة، إذ تعد المقدمة "العتبة الرئيسة للنص"، والنص الفاخر يحتاج لعتبة مذهبة، وهذا ما فعله الدكتور الصمعي، حيث يُوقف القارئ في مقدمته على هضاب عالية، يطل منها على: عقل المؤلف وروحه وغايته ومعارفه واهتماماته وملهميه (=أفلاطون، تاسيتوس، بيكون، غروتيوس)، مع سيقنة ذلك في ضوء أفكار العصر ومسلماته وسردياته، فضلاً عن التعرف على كيف كان يتعامل معها المؤلف، قراءة وتمحيصاً وإيراداً وصياغة؛ مع إشارته الشذرية لبعض الأفكار التأسيسية للمؤلف من قبيل إيمانه بأن: "الأمم الأكثر علماً كانت دائماً الأمم الأعظم قوة"! وفي خضم ذلك، يعرض المترجم للقارئ نهج المؤلف في القراءة، إذ كان يقرأ النصوص ثلاثاً: واحدة لفهم وحدته، وثانية لاكتشاف السلسلة التي تربط أجزاءه وثالثة للاستمتاع بلغته وجمال أفكاره، وكأن المترجم بذلك يغري القارئ بإقتفاء هذا النهج، وبخاصة مع تذكيره للقارئ بأن المؤلف باع "حلية ثمينة من الألماس لينشر الكتاب على حسابه" و"حين ظهر الكتاب لم يثر بنابولي لا الإعجاب والا الذم"، حيث "مر مرور الكرام ودخل ضمن الكتب الرديئة التي تتناول مواضيع عديمة الفائدة"، وكيف أنه وجد قبولاً مشجعاً لكتابه في البندقية مع الوعد بطبعة ثانية شريطة تطوير النص وتنقيحه، وهو ما جعل المؤلف يسلخ عامين إضافيين من عمره للقيام بمثل هذا التطوير. ولعل الصمعي في هذا النهج الرصين في المقدمات يعيد ألق المقدمات في التراث العربي الإسلامي. ومن سمات الترجمة الجيدة السعي لالتقاط الوحدة في المشتت عبر إشارات مفتاحية للقارئ، وهذا ما تكفل به المترجم، حيث أشار في مقدمته إلى أهمية الصورة التي وضعها المؤلف في بداية نصه، باعتبارها تمثل خريطة تعكس تضاريس النص وأفكاره الرئيسة، إذ بدون إشارة ذكية كهذه، لن ينفح القارئ المستعجل هذه الصورة أي قدر من الاهتمام، فيفوته الفهم الإطاري الإجمالي للنص، وهذا يعني أن المترجم يلعب دوراً في الإرشاد إلى خرائط النص وشفراته. وبعد ذلك، يجمل المترجم الجيد أجزاء العمل ويقوم بوصفها بشكل مكثف في قالب تكاملي، مع تعليقات مشجعة على قراءة النص والاهتمام به من قبيل قول المترجم: "هذا الكتاب يزخر بكنوز المعرفة القديمة ويربطها بالمعرفة الحديثة مروراً بمخاض القرون الوسطى القاسي والمتوحش"، مع إشادة فاخرة بالمؤلف، من قبيل قوله: "كان فيكو أحد أولئك العباقرة الذين يجود بهم الدهر بشح بين الحين والحين، ليتواصل مسير الإنسانية على درب المعرفة". ثم تعرج الترجمة الجيدة على تحديات الترجمة، فتوقف القارئ على أهمها، مع شرح واف لحيثياتها وسياقاتها، وكيف تمكّن المترجم من تجاوزها، ومن ذلك كيفية إيراد مفاهيم معقدة وأفكار غريبة على القارئ، مما يستلزم وضع هوامش عديدة لشرحها وبيان المقصود منها مع تحشيتها بتعاريفات للأعلام فضلاً عن إيراد الكلمات الأصلية في اللاتينية وغيرها، مما يفيد المتخصص ويلفت نظره إلى جوانب مفاهيمية أو منهجية في الترجمة. ولافت أن المترجم أشاد بتعاون الناشر عبر تهيئة فريق معاون في معالجة بعض تحديات الترجمة لهذا النص، ومن ذلك ما قدمه الدكتور عبدالله السفياني والأستاذ نواف البيضاني في مراحل عديدة، وهو ما يؤشر على وجود عمل جماعي، ينبغي الإفادة منه. هذه مجرد ملامح من جودة هذه الترجمة، على أن من أهم سمات ترجمة الدكتور الصمعي ما توفرت عليه لغته من: رصانة ودقة في فخامة ورشاقة، فله ولأدب الشكر الجزيل.