رحم الله رجل البر والعطاء فقيد الأدب والثقافة الشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين -رحمه الله-، فطالما أقام المنتديات والملتقيات والندوات، وأحيا أسواق عكاظ لا سوق عكاظ واحد، ويسوغ لي أن أقول: في العصر الجاهلي سوق عكاظ، وفي العصر الحديث عبدالعزيز بن سعود البابطين. هذا الرجل طالما غمرني بنبله وتحفيزه وأنا طالب على مقاعد الدراسة لا يأبه بي أحد؛ إذ كان يدعوني للكثير من الملتقيات الدولية، ويفتح لي الآفاق، ويعرفني بالأدباء والمثقفين ويحتويني احتواء أب لابنه، ويعلم الله كم أدين له بالفضل، وكم أراني عاجزاً عن رد بعض فضله، وما هذا عليه بغريب، فقد حفز أدباء العالم العربي ومثقفيه كبارهم وصغارهم، وستظل آثاره وآلاؤه حاضرة لا تغيب. لقد أحب وطنه العربي الكبير، وأحب ثقافته العربية، وأحب لغته العربية محبة خاصة، وأحب الأدب العربي قديمَه وحديثَه، وأحب الأدباء والمثقفين وأحبوه، وكأنما خلقه الله ليُحِب ويُحَب، لا لِيَكْره أو يُكْرَه. وقد ترجم هذا الحب بالأفعال والدعم السخي، فنهض بجهود لا تقوم بها كيانات، ونافس بمنجزات مؤسساته الثقافية ما تنجزه بعض الوزارات. لا أدري أأتحدث عنه بصفتي أكاديميّاً وناقداً، أم بصفتي جزءاً من أسرته وهو جزء من أسرتي، وتعلمون أن نصفه لعبوني أصيل، وهل ستغلبني موضوعيتي أم عاطفتي، لا بأس فلْأُطلق العنان للموضوعية والعاطفة معا، فمؤداهما في النهاية واحد، فالموضوعية تقول إنه عراب الثقافة والأدب وشاعر التلقائية، وهذا ما تقوله العاطفة أيضا. وعوداً إلى شعره الذي عرفت فيه نفسه الإنساني منذ أهداني ديوانه الأول بوح البوادي منذ ثلاثين عاما، وعشت معه تفاصيل كثيرة عرفت منها أنه عذب الروح طاهر القلب أصيل المعدن. ثم تأملت ديوانيه الأخيرين مسافر في القفار، وأغنيات الفيافي، وما حاد عن نهجه الأصيل، وسموه الراقي في مبانيه ومعانيه. وهذه أبرز معالم تجربته الشعورية: أصالة معدنه، واعتزازه بماضيه وبيئته، وها هي عناوين دواوينه تؤكد ذلك، إذ إنها كلها عناوين من بيئته العربية: بوح البوادي، مسافر في القفار، أغنيات الفيافي، وكان بمقدوره أن يجعلها بوح الجبال، ومسافر في التلال، وأغنيات الروابي، وهو حقا كان يجوب الجبال والتلال والروابي في مختلف أنحاء العالم، لكن عاطفته الأصيلة مرتبطة بنشأته وأصوله، ولذا باح للبوادي، وسافر في القفار، وغنى للفيافي. ومن معالم تجربته الشعورية وفاؤه الشديد لأحبابه، فلا تكاد تجد في دواوينه ما يدل على تنوع الأحباب، وكأنه يناجي حبيبا واحدا لا يعرف سواه، ولا يريد أن يعرف سواه. ومن معالم تجربته الشعورية أيضاً حبه العفيف، فلا تقع عينك في شعره على عاطفة جانحة، أو معنى مبتذل، أو أي شكل من أشكال التجاوز. ومن ذلك أيضاً طهارة روحه، فكل نصوصه تدل على قلب سليم، وروح نقية، لا حقد، ولا خصوم، ولا معارك. ومن ذلك أيضاً روحانية مضامينه، واتصاله بالله وهو يحوكها، وفشو نزعة إيمانية في كل ما يسطره. أما تجربته الفنية فيمكن أن أوجز معالمها في الآتي: صدق تجربته الفنية، فهو لا يتكلف في شعره، والشعر يأتي منه بتلقائية محببة خارج من الروح إلى الورق مباشرة، وأصالته الشعرية، فهو معتد بقوالب الشعر العمودية، ولا يخرج عن أوزانها وأنظمة قوافيها. وكذلك رومانسية رؤاه الشعرية مع متانة مفرداته وصياغاته، وهذا الامتزاج دليل على ثقافة أصالية وحديثة استطاع الشاعر المزج بينهما باقتدار. وما يميزه كثرة الاستحضارات التراثية في شعره، وهذا يؤكد أنه على صلة قوية بالموروث الشعري، وأنه حفظ منه الكثير في صباه، واختزنه في ذاكرته، ثم انعكس على شعره انعكاسا أنيقا.