من يسعى لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية التي عاشتها بلادنا عليه أن يتخيل حجم العزلة المهولة التي عاشتها جزيرة العرب منذ نهاية عهد الخلفاء الراشدين، عندما ابتعدت عنهم عاصمة الخلافة شمالاً نحو دمشق فبغداد فالقاهرة، ومعلوم كم هو مهم دور العاصمة وابتعادها في تلك الأزمنة التي لم تعرف فيها الدول خططاً للتنمية ولا صوراً متكاملة للتقسيمات الإدارية. إذا أدركنا حجم سنوات العزلة تلك التي زادت عن ألف عام أدركنا كم هي عظيمة الدولة السعودية التي أعادت - في دورها الأول - وضع جزيرة العرب تحت الشمس مرة ثانية، وكم هي عظيمة الدولة السعودية - في دورها الثاني - التي أبقت جذور الدولة حيّة رغم التدخلات الخارجية وكم هي عظيمة الدولة السعودية التي أعادت أهداف التأسيس التي تمحورت حول التوحيد والتحديث فأكدت على أن الهدف الأسمى هي إعادة جزيرة العرب تحت الشمس بصورة لا تقبل التراجع إن شاء الله تعالى. لقد نجم عن التوحيد والتحديث الذي حمل رايته جلالة الملك عبد العزيز حالة مثالية جداً من الاستقرار والأمن، ونجم عن تلك الحالة - فيما نجم - تطور التعليم وتطور الصحافة، وانفتاح البلاد على العالم من حولنا. ولذلك وجدنا - فيما وجدنا - أن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية قد بدأت في الوقت نفسه الذي بدأت فيه في مصر والشام والعراق، وتطورت الخطاطة السردية في بلادنا جنباً إلى جنب مع تطورها في البلدان العربية المجاورة. صنّاع الدهشة في بواكير القصة السعودية اتفق كثير من متابعي القصة القصيرة على أن قصة "على ملعب الحوادث" لعبد الوهاب آشي كانت فاتحة القص الأقرب إلى فن القصة القصيرة في تلك الأزمنة، ومع أن حقيقة تواريخ الكتابة وتواريخ النشر هي أمور تغيب دقتها إلا عن الله وحده، ولذلك ينبغي إجمال النماذج التي صنعت بواكير دهشة القصة آنذاك في: مجموعة "أريد أن أرى الله" لأحمد عبد الغفور عطار 1946 وهذا تاريخ نشرها كمجموعة، وقصة "حاج من بيت المقدس" لمحمد سالم حجازي الزهراني الذي عاش بين 1908 و 1976 وقصة "غادة أم القرى" للجزائري المقيم في المملكة أحمد رضا حوحو 1910- 1956 وقصة "زواج إجباري" و"قصة الحجاز بعد 500 سنة" لمحمد حسن عواد 1902-1980 ومجموعة "خالتي كدرجان" لأحمد السباعي، صدرت عام 1385 وهذا تاريخ نشرها كمجموعة والله وحده يعلم متى كتب السباعي قصته الأولى وفيها ومتى نشرها؟ وفي جميع الأحوال فإن هذه الحقبة قد أشعلت شموع القصة استناداً إلى ثقافة روادها وإلى البيئة الآمنة المستقرة التي وجدوا أنفسهم فيها وإلى بعض الشخصيات المشجعة من أمثال الشيخ محمد سرور الصبان. وقد جاءت جهودهم السردية تحت سمات منها: 1- إخلاص كتابها لمسؤوليات البلاغة أكثر من إخلاصهم لمسؤوليات الفن القصصي. 2- طغيان صوت الكاتب على صوت الراوي جعل التقريرية والمباشرة تحاصران الفن في قصصهم. 3- من حسناتها ولدت دهشة قص عظيمة أفضت إلى نخبة جديدة مدججة بالفن القصصي. كان من بينهم: غالب أبو الفرج، أمين رويحي، عبدلله بوقس، إبراهيم الناصر، محمود المشهدي، حسن القرشي. هؤلاء اتجهوا لفن القصة وتنازلوا عن كثير من الإنشائية والتقريرية لتتطور تجربتهم على يد جيل أكثر حداثة من بينهم: عبدالله الجفري وسباعي عثمان ونجاة خياط ومحمد الشقحاء (في جولاته الأولى) وعبدالله سعيد بن جمعان الزهراني ومريم الغامدي. واستمرت العطاءات السعودية تترى بعد ذلك حتى شبت عن الطوق وتركت للمكتبة السردية إرثاً هائلاً من المجاميع القصصية. الاستجابة القادمة من الباحة: الجهود القصصية الأولى جاءت من أبناء لنا سكنوا المدن، بل وأسهم بعضهم في صناعة دهشة القصة في بواكيرها الأولى، لكن أمانة التاريخ تقتضي منا ومن كل باحث مدقق أن نشير إلى التجارب التي نضج قدرها على أثافٍ من حصى الباحة، خاصة مع غِنى تلك التجارب ووفرتها وأقدميتها حيث إن بعض النصوص التي توفرت لي يعود تاريخها إلى عام 1375 لكاتب اسمه محمد الفقيه وتتحدث عن هجرة عاشها الكاتب من قريته في السراة إلى قرية المروة في تهامة، ونص سمعته من فم كاتبه المرحوم أحمد بن خلف، كان يقرؤه في لفيف من الأصدقاء وتدور حول تجربة عاطفية عاشها الكاتب. ثم اطّلعت على مجموعة قصصية للمرحوم محمد بن سعد فيضي كتبها بين عامي 1385 و1391 ونشر بعضها في الصحف السعودية خلال تلك الفترة، لا أتذكر عدد ما في المجموعة من القصص لكنها لا تقل عن العشرين تحت عنوان: عمود الفجر، وكان يعدّها للنشر هي ورواية معها لكنه لم يفعل ولعلها باقية عند بنيه الآن. وفي عام 1398 فازت تجربتي الأولى بجائزة الإذاعة السعودية، وهو الأمر الذي دفعني للإقامة في خندق السرد حتى بلغت مجموعاتي القصصية اثنتا عشرة مجموعة قصصية. هذه تجارب جميلة، ومحسوبة في تاريخ القصة في الباحة، لكن الكثير منها لم يصل إلى الناس بشكل كاف، غير أن النماذج التي انتشرت كانت لاحقة لتلك الفترة وقد ميزت فيها بين فئتين، فئة عصر مجلة الباحة، وفترة العمالقة. القصة في عصر المجلّة: المجلة هنا هي مجلة الباحة التي صدر عددها الأول في رمضان 1405 وظهر منذ البداية أنها دورية كل ثلاثة أشهر لذلك جاء عددها الثاني في ذي الحجة من العام نفسه، صدرت عن الغرفة التجارية تحت إشراف أمينها الأستاذ سعيد بن عثمان يعضده سكرتير الغرفة المرحوم تاج السرّ فقير ونفر من المتعاونين من داخل الغرفة وخارجها في مقدمتهم الأستاذ الأديب محمد حسين السوادي. لقد نجح أولئك في تقديم أول مجلة دورية ملونة تعرفها الباحة وإن كان الناس قد عرفوا نشرات أقل ذيوعاً عبر الإدارات الحكومية كانت أقدمها نشرة الظفير التي صدرت قبل قرن من صدور مجلة الباحة، وقد أدرك القائمون على المجلة ضرورة التوسع في التغطية الثقافية فمدوا يد التعاون نحو الأستاذ أحمد المساعد مدير مكتب جريدة المدية بالباحة وأحد الرموز الثقافية في المنطقة. وقد عملت (أنا كاتب هذه السطور) مع أحمد المساعد منذ العدد الثالث في ربيع الثاني 1406 ثم عملت مكانه مشرفاً ثقافياً حتى عام 1414 حرصت خلالها على وجود القصة القصيرة بلا انقطاع فنشرت قصصي الأولى التي ضممت بعضها إلى مجموعتي الأولى المفازة: دفتر الدوام، الكابوس، وظيفة، الصيام الكبير، البهلوان، الانكسار .. إلخ، وقد ازّينت المجلة بأقلام بارعة تناوبنا فيما بيننا حمل مهمة الوجود السردي على صفحات المجلة. نشر الأستاذ مهدي الكرت (وهو مربّ فاضل وفنّان قدير ومن أوائل عازفي العود في المنطقة) ثلاث قصص قصيرة تكفي لوضعه في مقدمة كتاب القصة داخل الباحة وخارجها، نشر قصة: يوم الامتحان في العدد السادس، ونشر قصة أخرى عنوانها: وانطفأ المصباح في العدد العاشر، ونشر قصة أخرى عنوانها: العقد في العدد الحادي عشر. نشر الأستاذ حسين حمّاد قصتين منهما قصة أضحوكة اللحظة الواحدة في عدد ذي القعدة 1407، وهو قاص مصري سكن الباحة وعمل فيها معلماً للغة الإنجليزية، ونشرت الأستاذة سلمى محمد قصتين هما: العرس في عدد رجب 1408، وقصة دمعة على جدار الصمت في عدد ذي القعدة 1408، ونشرت الأستاذة فائزة آل سحمي كابوس الشقاء في عدد محرم 1409، ونشرت الأستاذة مروة الغامدي قصة المبيد في عدد ذي القعدة 1409ه. انضمت إلينا الأستاذة فاطمة منسي ابتداء من عدد جمادى الأولى عام 1409 فكان لانضمامها أثره الكبير في مسيرة السرد على صفحات المجلة، نشرت رحمها الله قصة: لا أحب زهرة اللوتس في عدد جمادى الأولى 1409، ثم قصة بكاء في الظلام جمادى الأولى 1410، ونشرت قصة سراب وحلم ومطر في عدد ذي القعدة 1410، وقصة الرجل المثال في عدد رجب 1411، وقصة النافذة الخلفية في عدد رجب 1412، وقصة بقايا رجل طيب في عدد صفر 1413ه. وقد حظيت المجلة بثلاث قصص لثلاثة من المشاهير، قصة: الدوار للأستاذ عُقَيلي عبد الغني نُشرت في عدد ربيع الأول 1410، وقصة: الوانيت للراحل الكبير عبد العزيز مشري في عدد رمضان 1412، وقصة حزن الظهيرة للدكتور محمد عبد الله الريّح في عدد رجب 1414، وكنت بدوري أكتب القصة وأتركها وديعة عند مدير التحرير الأستاذ سعيد بن عثمان -حفظه الله- فإن وصلت إلينا قصة لغيري فضلناها وإلا فقصتي جاهزة، وقد نشرت بالتداخل مع هؤلاء الأكارم: دفتر الدوام، الكابوس، وظيفة، الصيام الكبير، البهلوان، الانكسار وغيرها. عصر العمالقة: والعمالقة هنا ليست تطبيلاً لقصاصي هذه المرحلة بل هي حقيقة توافق جهدهم الشامل، للواحد منهم عطاؤه الثرّ في أكثر من ميدان، فهذا جمعان الكرت كان على السنام من العمل الصحافي ومع ذلك امتد عطاؤه للمسرح قليلاً وللقصة كثيراً، وعبد القادر بن سفر كانت له اشتغالاته المسرحية عبر جمعية الثقافة والفنون بالباحة إضافة إلى تأملاته الشعرية والنثرية، بجانب عمله التربوي الذي يخلص له، وكذلك الحال مع علي السعلي صحافة وتأليفاً مسرحياً وقصة ومهنة وإن كان قد مارس التمثيل المسرحي بنجاح أيضاً. ومحمد زيّاد قد انشغل بتآليف كثيرة عن قبيلته ولسانها وبعض أعلامها، أما موسى بن سعيد فإنه يكتب الشعر الفصيح بامتياز وجودة عالية إلى جانب امتيازه في القصة القصيرة. وكذلك الحال مع الأستاذ ناصر العمري الذي توزعت جهوده الدائبة بين الصحافة والمسرح والقصة والنقد الأدبي، وعلي بن سعد وإن لم ينشر مما كتب شيئاً حتى الآن إلا أنه يقف بجدارة وسط هذه المجموعة وقد نهبت جهوده مهام أدبية أخرى في مقدمتها المسرح المدرسي والأنشطة الشبابية الأخرى، وعلى المسار نفسه برز الدكتور علي الرباعي قاصاً مع ما أخذت منه الصحافة التي ضرب فيها بسهم وافر. وهكذا كانت أبواب الشهرة مشرعة لهؤلاء جميعاً، فالصحافة تكفي، والشعر يكفي، وسائر أشكال التأليف تكفي، ومع ذلك ظل هاجس القصة يتحرك في نفوسهم فكتبوا فيها وأصدروا المجموعات وفاء لموهبة أصيلة تجذرّت وليس بحثاً عن شهرة قد ظفروا بها من غير قصّ ولا سرد. اُستهلت هذه المرحة بمجموعة "فضة" التي أصدرها جمعان الكَرَتْ في عام 1419 عن دار العلم بجدة، ثم تتابعت إصداراته فجاءت (عناق 1429) وسطور سرويه (1430) وبوارق (1434) ووميض الرماد (1437) التي نال عليها جائزة الباحة في الإبداع الأدبي. ثم أضاف المزيد من إبداعاته وما يزال عملاقاً. ثاني إصدارات هذه المرحلة كان من محمد زيّاد الذي نشر مجموعته الأولى "بقايا حصون" في 1425 ثم جبال من رماد في 1428 ثم طابور المساء 1432. أما ثالث إصدارات هذه المرحلة الذهبية فقد جاء من عليّ السعلي عندما أصدر مجموعته الأولى "السعلي" وتماشج اسمه مع اسمها منذ عام 1427، ومجموعة خلّك رجّال في عام 1439.ثم جاء الإصدار الرابع لهذه المرحلة من علي الرباعي الذي نشر مجموعته الأولى "هس" في عام 1428 عن دار الشروق الأردنية. جاء الإصدار الثامن من موسى بن سعيد الذي أصدر مجموعته الأولى "أسرار" في عام 1431 وجاءت حافلة برصد تحولات المجتمع السعودي في قالب سردي أشاد به النقاد في حينه، ثم جاء الإصدار العاشر من عبد القادر سفر الذي نشر مجموعته "شرفات الذاكرة" في عام 1433 ثم مجموعته "بحثا عن إنسان" في 1435 وكانت بالعربية والإنجليزية. ثم واصل سرديته الجميلة لاحقاً بجانب اهتماماته المسرحية أيضاً. الإصدار الثاني عشر من إصدارات هذه المرحلة جاء من ناصر العمري الذي نشر مجموعة "صراع com" في عام 1435 وما زلنا في انتظار علم آخر من أعلام هذه المرحلة هو الأستاذ علي بن سعد ساعد ليفرج (على أقل تقدير) عن مجموعة "بيوت الحمد" أقدم مجموعاته المخطوطة التي لم تنشر بعد لتنضم إلى قرابة ثلاثين مجموعة سطرتها أقلام أبناء الباحة خلال ثلاثة عقود بين 1406 و1439 والله المستعان. وقد واصل القص تحليقه في سموات الباحة حتى ولّد أسماء كثيرة، لا يكاد يمرّ يوم إلا ويبرز اسم قاص عظيم، بنى على ما بنى الأولون وفعل فوق ما فعلوا، وفي مقدمة أولئك ضيفان من ضيوف أمسية الليلة هما الأستاذة ليلى الحامد والأستاذ توفيق الغامدي. كلمة ختام عن شموس الباحة: قال شاعر الباحة عبدالله البيضاني : "أُنْحُنْ زرّاعه ونعرف حَبَّنا من تالي الحُبَان" ولذلك لا بد من الإشارة إلى أسماء سردية بالغة الأهمية، هم من أبناء الباحة، لكن أسباب الحياة قد وفرت لهم مكاناً عليّاً في بقاع أخرى من بقاع بلدنا العظيمة، ومن بين تلك الأسماء للتمثيل وليس للحصر: عُقَيْلِي عبد الغني، صالح بن محمد المعيض، سعد الثوعي، عبد العزيز المشري، علي خالد الغامدي، سعد بن حمدان، أحمد الدويحي، محمد علي القرامي، هناء حجازي، محمد عصبي، عثمان بن سعيد الغامدي، أحمد المساعد، معجب الزهراني، عبد الخالق بن جمعان، نورة الغامدي، طاهر الزهراني، عليّ الشدوي، أميرة الزهراني (ناقدة)، خالد المرضي، بخيت الزهراني، فاطمة بنت عبد الله (فاطمة بنت السراة) فاطمة بنت سعد، فاطمة بنت عبد الحميد، محمد محسن، مريم الزهراني، بدور سعيد، سميرة الزهراني، سناء الغامدي، خالد الزهراني (الداموك) أحمد عبد الرحمن عصيدان، عبد الله الزهراني، سالمه ( هكذا فقط) محمد عبد الله، عبد الله محمد صالح، سهام مرضي، حامد العباسي، عمرو بن قحنون، فيصل الغامدي، حسين الغامدي، أسماء الزهراني، معجب العدواني، محمد سعد الزهراني، عبد الله الناصر، أنور دمهاس، عدنان ربيع، ونختتم بالأديب العراقي الفنان المرحوم الدكتور فاروق الموصلي الذي عمل في الباحة وبعد عودته لبلاده أصدر روايته مراثي بني غامد وزهران. والقائمة تطول وتطول والوقت يضيق ليعطي المجال لبقية الضيوف، وستجدون كل التفاصيل في كتابي "سرّاد السراة وتهامة الباحة مثالاً" والذي كنت أنتظره هذا الأسبوع ولكنه لم يصل، فالسلام عليكم ورحمة الله.