برع (جوستاف لوبون) في تأسيس مرجع نفسي واجتماعي مهم من خلال كتابه (سيكولوجية الجماهير)، إذ سلّط فيه الضوء على تلك التوجهات الجماهير ية العامة، وطريقة تفاعلها وكيفية التعامل معها، ومن الحقائق المهمة التي أسّس لها في هذا المرجع الثمين أن تحكيم العقل والمنطق لدى الأفراد أفضل بكثير منه لدى المجموعات الجماهيرية، إذ يقع الجمهور في حالة أشبه ما تكون (بالغيبوبة العقلية)، وفي نشوة الحضور الجماهيري، يتخلى الفرد عن الروية والتأني، وتستلبه الانفعالات العاطفية فيتصرف بلا وعي أو بلا حكمة، في ظل اندماجٍ جماعيّ غير آبهٍ في الغالب بمقاييس الصح والخطأ، وبدلاً من أن يتحكم الفرد بعقله الخاص، يتكوّن عقلٌ جماهيريٌّ جماعي، يتميز بالقوة الهادرة المتحفزة، ويصبح أشد انفعالًا كلما زاد وضوح الهدف، وتنظمت الخطة النضالية لديه عن قضيّةٍ ما، إنها عقلية تميل بطبيعتها إلى التضخيم والتشويه، أو التعميم وعدم الدقّة، متى ما وجدت فرصة لذلك، ومن أقوى عوامل التأثير فيها (العاطفة والمشاعر)، ولذلك فإن المؤثرين في الجماهير يدركون هذا العمق النفسي فيستغلونه بشكلٍ فعّالٍ جداً، من أجل التحكم في مسارات الجماهير وتغيير وجهاتها، وتبديل قناعاتها حسب ما تقتضيه المصلحة، وكلما تمكن هذا (المحرّك) من فهم طبيعة الشريحة الجماهرية، زادت قدرته على إحكام التأثير والتغيير في المبادئ العامة والتحولات الجماعية، ومن أشد العوامل التي يرى (جوستاف) تأثيرها في العقلية الجماهيرية هي الأعراق والأصول الاجتماعية، بالإضافة إلى الثوابت الدينية، التي تتشكل على إثرها الحضارات المتراكمة إنسانياً في فترات قد تكون طويلة جدًا، وبالقدر نفسه من الفترات الزمنية يمكن أن تغير هذه الجماهير من قناعاتها التي ترسّخت بشكلٍ جماعي، حتى لو وقعت هذه الثوابت، أو المسلمات في صدام مستمر مع عقل الفرد (المنطقي غالباً وليس العاطفي، ومن هنا تبدو خطورة هذه الطاقة العاطفية وصعوبة التعامل معها، وفي الوقت نفسه يمكن أن نعتبر السيكولوجية الجماهيرية فرصة هائلة لترسيخ المبادئ الإيجابية والقيم العليا، من ذلك على سبيل المثال تحفيز الروح الوطنية، وتعزيز وحدة الصف واللُّحمة تحت راية الوطن، ولا يمكن في مثل هذا المقال أن نتجاوز صلابة الوحدة الوطنية السعودية، ومدى التفافها العاطفي من أجل المحافظة على مكتسبات ومقدرات الوطن، وفي الكثير من مواقف هذا الوطن وتاريخه المجيد تجلّت هذه السكيولوجية الوطنية بوضوح، ومن تلك المظاهر على سبيل المثال، وبحكم ما نعيشه هذه الأيام، تلك العاطفة الرياضية التي تجتاح الوطن عندما يمثلنا المنتخب الوطني في بطولاته ومنافساته الخارجية، إذ تتجلّى تلك العاطفة المشبوبة بحب الوطن، وتختفي كل الألوان إلا سيادة اللون الأخضر، ومن هنا تبدو مسؤولية المؤسسات الإعلامية والاجتماعية بمختلف أنماط تواصلها في نبذ كل ما من شأنه أن يخدش جمالية هذه الروح الوطنية الجميلة، والعمل على تحفيز هذه الروح، باعتبارها مكتسباً وطنياً لا يقلّ عن مكتسباتنا الحضارية الأخرى، حتى لو بدت في نظر البعض مجرّد جماهيرٍ (رياضية) لكنها في حقيقتها أنموذج لروح الوطن بشكل عام، ولا يمكن للجسد أن يواصل نبضه إذا تشتت روحه.