كل منا عاش "جائحة كورونا" وله ذكرياته معها، ونعلم أنه من المهم جدّاً توثيق تلك الذكريات والأحداث سواء اجتماعياً أو اقتصادياً أو دينياً أو صحيّاً، فكيف إذا جاءنا هذا التوثيق من رأس الهرم الصحي آنذاك، الدكتور توفيق الربيعة وزير الصحة السابق -ووزير الحج والعمرة حالياً-، في كتابه الصادر مؤخرًا بعنوان "الوقوف على أطراف الأصابع.. ذكرياتي مع جائحة كورونا 2020".. هذا العنوان وحده أقوى دافع لاقتنائه، لأنه يتحدث عن أزمة عالمية شلّت العالم أجمع، حجبت الوجوه ولم نعد نرى سوى العيون المتسائلة، التي لا تعرف متى سينتهي كل هذا، وكانت مستجيبة للنداء الأشهر حينذاك "خليك بالبيت". هذا الكتاب لم يطلعنا فقط على حسن إدارة الدكتور توفيق الربيعة وتعامله مع هذه الأزمة، بل أطلعنا كذلك على براعته في الكتابة والأسلوب السلس المشوق للقراءة، وكان الربيعة يختم كل مقال بفائدة قيادية وإدارية تمثل خلاصة ما استفاده من المواقف التي أوردها في المقال ذاته. في بدايات الكتاب تحدث الربيعة عن قصة إنشاء (مركز الأزمات والكوارث) الذي تم افتتاحه في منتصف 2019 أي قبل الجائحة بأشهر معدودة، وكذلك بدء العمل على مركز استقبال الاتصالات 937 الذي كانت الوزارة ترى نفسها في عيون الناس من خلال هذا المركز. وكيف زادت أهميته مع ظهور الجائحة، فهو كما قال الربيعة "رقم 937 أكثر رقم حاضر في ذهن وذاكرة كل إنسان في المملكة خلال فترة الجائحة".. فقد وصل عدد الاتصالات إلى أكثر من مئة وخمسين ألف اتصال يوميًا. وكأنه بذلك يعطي كل إداري وقيادي درسًا في أن يستعد للأزمات في الأيام الهادئة. ثم بدأ الربيعة في سرد الحكايات التي عشناها، ولكن لم نكن نعرف كواليسها وكيف تم الاتفاق على هذا القرار واعتماده، وما هي الصلاحيات الممنوحة لوزارة الصحة وغيرها من الجهات التي تضافرت جهودها للعمل معًا للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، وهذا ما ذكره الربيعة في كتابه الذي يقول عنه بأنه: (يدوّن قصة أناس عظماء تجلت قدرتهم في قيادة هذه الأزمة الاستثنائية من أعلى الهرم حيث يشرف عليها خادم الحرمين الشريفين، ويقود ملفاتها ولي عهده الأمير الفذ محمد بن سلمان الذي كان يعرف التفاصيل ويصل ليله بنهاره عملاً ومتابعة وقيادة. كان يهندس خارطة طريقها بدقة ويتخذ قرارات جريئة أنقذت بلدنا بعد توفيق الله وجعلته من الدول الأكثر تميزاً في التعامل مع هذه الجائحة، هذا التفاني من قياداتنا جعل جميع قطاعات الدولة تعمل بجد وجهد واجتهاد منقطع النظير من أعلى موظف حتى آخر موظف في هذه الجائحة قد لا يعرفه أحد متوارياً خلف جهازه أو في معمله أو ذاهباً آيباً من أحد الميادين القصية يصل ساعات يومه، عن كل هؤلاء، دونت هذا الكتاب). يأخذنا الربيعة وكأنه يسرد لنا قصة يحدثنا فيها بتسلسل عن بدايات الخبر في العالم وكيف وصلنا، وكيف اقترب من حدودنا، وكيف كانوا يخشون انتشاره، وردة فعله حين وصله خبر أول حالة أصيبت بكورونا قادمة من الخليج، وكيف تم الإعلان عن قرار إغلاق المدارس، وكيف تحولت المنازل لفصول مصغرة، ومكاتب عمل، وكيف كان وقع النداء الحزين "صلوا في بيوتكم" على الناس، خصوصا كبار السن، الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد، ولكن تم اعتماد هذا القرار خوفًا عليهم خاصة، وكيف أحدث هذا القرار خلافً في اللجنة، ولم يعتمد في البداية، ثم طُرح مجدداً بعد زيادة الحالات وبعد أن اتخذته بعض الدول المجاورة، فكان لا بد من تطبيق هذا الإجراء رغم ألمه الذي لا يوازيه ألم سوى رؤية الحرم فارغًا إلا من العاملين فيه.. وكيف كان منظره يبكي العين والقلب.. كل هذه التفاصيل سردها الربيعة من وجهة نظره كمسؤول عن صحة الناس، وكيف أثقل ذلك كاهله. وكم كان حديثه مؤلمًا ومؤثرًا جدًا حين تحدث عن عودة المبتعثين والمغتربين وتجربة الحجر الصحي وبعض المواقف الصعبة التي واجهتهم أثناءها. (عندما أتذكر تلك الأبنية الضخمة التي هيئت لاستقبال الكل دون تمييز، تُدرك حينها قيمة الأوطان ومدى تثمينها للإنسان وأن القيمة الحقيقة تُعرف في الشدائد والمحكّات، أما وقت الرفاهية والسعة فالكل يتحدث عن أن وطنه هو الأجمل). الكتاب يذكرنا بالمتحدث الرسمي لوزارة الصحة الدكتور محمد العبد العال الذي كنا نترقبه ونحاول تحليل خطابه وتعابير وجهه لنعرف مدى الخطر في هذه الأيام، وذلك التقرير المرتقب الذي يرصد عدد الحالات في كل مدينة من مدن المملكة وعدد الحالات الحرجة وعدد الوفيات. وكم هي جميلة اللفتة التي تحدث عنها توفيق الربيعة بخصوص ذاكرة الشعوب: (لم أكن مؤمنًا في أية مرحلة من حياتي بمقولة "إن ذاكرة الشعوب هي ذاكرة قصيرة وسريعة النسيان.."، لأنه عندما يكون الضمير يقظًا وحيًّا فإنه يغدو خير رفيق لك في الأوقات الصعبة). ويختم الكتاب ببعض الصور التي لا تغيب عن ذاكرتنا، صورة الحرم فارغًا والشوارع فارغة أثناء فرض حظر التجول، وصورة أول قنينة لقاح تصل للملكة، وكيف كان تأثير صورة الملك سلمان -حفظه الله- وولي عهده محمد بن سلمان على الناس الذين بادروا بحجز موعدهم للحصول على لقاح كورونا، وغيرها من الصور التي تجعل العين تدمع لتذكّر تلك الأيام العصيبة وكيف تجاوزناها كدولة تعد في مقدمة الدول التي تجاوزت الجائحة بكفاءة عالية.