الغياب حالة وجدانية تتجاوز الشعور العادي؛ ففيه نشعر بأننا ننفثُ زفيرًا ساخنًا وجمرة غياب تتقد في الصدر، ما تلبث أن تهدأ إلا ونسقط في هاويةٍ سحيقة، مثلما تسقط النيازك وتموت حكايتها في قطعة خاليةٍ على جانب من الأرض يصلُح لكل شيء إلا للحياة، تُطل النجوم من الهاوية على القلب فتتردد أصوات مزعجة في العقل. معها تصبح الروح مهجورة ومعطوبة الذاكرة، يأتي التذكر مثل وميضٍ عابر. كم كنا نمدّ أيادينا فتتوارى أيديهم؛ وكم أتّبعنا سرابًا لا ينتهي إلا حين نشعر بأننا في مفترق طرق. كم من العمرُ قضيناه نزيحُ الستائر عن وجوهنا وننادي متى يأتي الصباح! ثم تُشرق الشمس على الكون إلا على وجوههم؛! نراها ولا نراها، ينبثق قوس المطر من بين سحابة وسحابة وتهطل الغيوم لكنما لا تُغيثنا، نبتعد عن المباني والمقاهي والطرقات والناس.. يا مطر نحن نقف هنا ونمزق أوراق خواطرنا، يسيل من أعيننا خطّان متوازيان يبللان أطراف أيدينا ثم نستيقظ. هنا أستعيد قصتي مع الغياب؛ فالشمس تخترق نافذتي، بعدها أضع قبلة على رأس أمي وعلى كتفها النحيل الذي أثقلته الهموم سنواتِ طوال، أشعر كم هو عظيم صبر الأمهات. أودّعها بتمتمات لأذكار الصباح، أمشي مسرعة ناحية الطريق الرئيس أنا الباحثة عن الحياة في خضم الحياة، أبحث عما يشغل عقلي قبل يدي، وأبحث عن مكان لا تمرّ فيه على ذاكرتي، وبقعة من العالم أتظلل فيها عن برد هجرك وقسوة هجيرك، أكتب الشعر حزينًا، ويكتبني وحيدةً مكلومة، لا أدري أيّنا يكتب الآخر لكني عن المعاناة أدري، أنا ابنة أكتوبر في ليلة باردة كأنما ولدتُ في ساعة عزاء، هكذا بلا وجودك يكون شكلُ الحياة. أعود أدراجي فلا عمل ولا أمل، وأدسّ في وسادة الليل وجهي مرةً أخرى إذ أنّ كُل الدقائقِ ليلٌ حتى تأتي!.. فمتى؟