لطالما واجه الإنسان المجهول بتفكير يغشى معظمه الخيال، دافعًا أسئلته ومخاوفه إلى الحافة، لعلّها تهوي فيظفر بالخلاص، وبالأخص إن قدّر له أن يتقلّب في القفر، ويستدرّ الصحارى، ابن البادية الأول، صانع اللغة ومبدع ديوانها الخالد. مع العربي قبل عصر الإسلام سنتتبع الدواعي التي قادته إلى أحد أعظم آداب العالم. إنّ الامتداد العرقي أقوى عامل دعا إلى خلق أدب في الجاهلية، فالعرب ذوو طبيعة ترتكز على الانضواء تحت سلطة كبرى، فكانت القبيلة، التي تولي عناية بالغة بالأنساب، وتعتمد نقاءها، وتتحرى أرفعها، ما تطلّب ظهور الفئات الطبقية في ذلك التكتل، واتُّفِق على دستور ضمنيّ غير مدوّن، اقتضى التعصب والانتصار لمنتمي الكتلة وأحلافها، أو مواجهة مصير الخلع عند المخالف، ليتأسس أهم الأغراض الشعرية، وهو الفخر. ثم تأتي البيئة، وللصحراء خصائصها من المحل وشح المطر، وتبعاتهما من انقطاع الموارد، والارتحال لطلب العيش، فاعتيد الغزو والاقتتال؛ وعلى الجانب الآخر لم تخلُ الصحارى من واحات وجبال مطيرة، يفيض بها السيل بالخير، لكنها لم تقنعه بالاستقرار، فمال إلى التنقل، وازدرى الاستقرار وصناعاته، وتشكل وجدانه وانطبع بالتناقض، الخير والشر بلا توسّط، فأغاث وأجار، كما غزا وقتل. إنّ التباين في البيئة والنفوس، والتماهي مع البيئة ومكوناتها، وسم أدب البدوي بالواقعية، واستخرج ما اختلج في داخله، فدقق الوصف، وأوجز القول، وأجزل اللفظ، للتدليل على ما يرومه. وللأسواق دور، إذ هي مظهرٌ للسلم في الأشهر الحُرُم، يحقق التبادل التجاري والاستعراض الثقافي الأدبي، وأشهرها عكاظ، حيث يُعرضُ الشعر ويحكَّم، إلى جانب النفيس من السلع. تقودنا الأسواق إلى سياق الاقتصاد والمال، فكانت الرغبة في التحكم بطرقه، حيث تخللته الأحلاف بين القبائل والإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، هيّأ ذلك صراعًا سياسًا، أضرم شعلة الشعر، حين كان سلاحًا إلى جانب السيوف والرماح، يُجزَل له العطاء. لا شكّ أنّ الصحارى بقفارها ولياليها الموحشة، مصدرَ تلاعبٍ بالخيال، وإيعازٍ للظنون والبناء عليها، فاختلِقَت الأساطير، واعتقد العرب بالخوارق والجانّ وخواصهم، واختصاص مناطقهم ودوابهم بها كذلك، فغذّت الأخبار النصوص الشعرية، ورصّعتها بالكائنات، والدواب كالغيلان والسعالي، وحوادث التحوّل والتشكل، وغرائب المطايا. لكنّ الأدب الجاهليّ لم يسلم من التشكك في حقيقته، والتي أزعم أن مردّها إلى الطبيعة الشفاهية للأدب آنذاك، إذ عُرف أنّ الشعر حُفظ ورُوي، ولا أدّل على ذلك من تعلّم بعض الشعراء أصوله بالحفظ وطلبه على شاعر أعلم، كالأعشى وخاله، كما كانت الفحولة صفة تشترط حفظ أدب السابقين، فإن ثبت الحفظ، فقد ثبتت الرواية، لكنّ الاختلاف جاء في أمر تدوين الأدب. وبالنظر في تاريخ العرب ولغتهم، نتبيّن أنّ عصرهم لم يخلُ من الكتابة، فقد استخدمت للتكسب، وتدوين العهود وكلّ أمر ذي شأن، فلا بدّ أن التدوين طال بعض الأدب، ليس كلّه، ولكنّ عوامل الزمن، حالت دون وصول الدلائل الماديّة. وقد جرى جدل طويل حول نسبة الشعر الجاهلي لأهله، تتبّع الباحثون العرب على إثره مناهج الجمع والتدوين، فناقشوا قضية الصحة والانتحال، ولعلّ أشهرهم طه حسين، مفصّلًا ذلك في كتابه «في الشعر الجاهلي» مثيرًا بذلك جدلًا واسعًا بين المختصين. ثم جاء الدكتور ناصر الدين الأسد، ليتتبع القضية علميًّا ويستقر فيها على ثلاثة أوجه، الأول منحول وهو قليل، والثاني مختلفٌ فيه وهو قليل بالنسبة إلى مجمله، أما الثالث فهو الشعر الموثوق نسبته إلى عصر ما قبل الإسلام، ومنه المعلّقات. هنا يفصح الفاخوري عن تأييده للدكتور الأسد، مبررًا ذلك بمنهج الأولين في النقل والرواية الذي اعتمد على الدقة والتثبت من قبل النقاد ومؤلفي الطبقات وتراجم الشعراء والرواة، رغم أنّ الخلاف وقع بين بعضهم لاختلافات عمّت المصادر المعتمدة، ومنهج اعتمادها.