لا يزال المفكر والأديب عبدالله عبدالجبار يبحر بنا في موسوعته بجزئها الثالث والتي اعدها للنشر الاستاذان محمد سعيد طيب وعبدالله فراج الشريف ويتناول الجزء الثالث قصة الادب في الحجاز في العصر الجاهلي، ويستهل الأديب عبدالله عبدالجبار فاتحة كتابه فيقول: هذا الكتاب: "قصة الادب في الحجاز في العصر الجاهلي" أوسع دراسة ظهرت عن بيئة أدبية من بيئات الأدب العربي القديم، وهو أول كتاب يؤلف عن الحجاز ونهضة الادب العربي وازدهاره فيه في العصر الجاهلي، واذا اطلقنا كلمة "الحجاز" فإنما نعني بها ما يشمل الحجاز، او ما يسمى ب"تهامة الحجاز". وهذا الكتاب جديد في الادب العربي لان موضوعه جديد بكر، لم يتناوله على هذا النحو احد من قبل، فالذين يتحثدون عن آداب العرب القديمة يتحدثون عنها في الجزيرة العربية كلها باقسامها العديدة، دون ان يخصصوا دراساتهم ببيئة مستقلة من بيئات الجزيرة العربية كالحجاز، وانما يدرسون ادب هذا الشعب العربي جملة، لا يفرقون بين الادب الحجازي، وبين الادب النجدي، ولا بين هذين وبين الادب اليمني، ولا يتحدثون عن خصائص ومميزات الادب في كل إقليم متميز من هذه الأقاليم، فتجيء الاحكام الادبية عامة مجملة، غير صادقة تمام الصدق، ولا عميقة في جملتها عمقاً يحيط بحقائق الادب واصوله وحياته في هذا الجانب او ذاك، من جوانب الجزيرة العربية الشاسعة المسافات المترامية الاطراف. ان خصائص الادب في بيئة نجد، لا يمكن ان تكون هي نفس خصائصه في الحجاز، والشاعر الجاهلي الذي قضى حياته في ربى نجد، لا يصح ان تكون شاعريته مطابقة تمام المطابقة لشاعر جاهلي آخر عاش في الطائف او مكة او المدينة. ومن ثم كان لابد لنا من تخصيص هذه الدراسة عن الحجاز في العصر الجاهلي. وربما اعترض علينا بعض القراء، باننا في عصر القوميات، الذي انتفضت فيه القومية العربية، وانبعثت من مرقدها، وهذه القومية تحتم علينا دراسة الشعب العربي جملة، وآدابه جملة كذلك، دون النظر الى اقاليمه وبيئاته. ونحن نقول لهؤلاء المعترضين: ان دراسة آداب الشعب العربي جملة لا تتأتى الا عن طريق دراسة آداب اقاليمه وبيئاته دراسة نقد، واستيعاب، وتحليل، بحيث يتبين منها الخصائص والسمات، وتستمد الاحكام الادبية الصادقة التي لا حيف فيها على الحقيقة. ثم ان الحجاز كان البوتقة الحيوية التي انصهرت فيها الخصائص الاساسية للامة العربية، وتخلصت فيها من الشوائب والمثالب، حتى غدا جوهرها صافيا نقياً.. انصهرت في الحجاز العقائد واللهجات والتقاليد والعنعنات، والسجايا والاخلاق فصفاها من اوشابها وادرانها، حتى برزت تلك العناصر الفعالة، التي استندت اليها القومية العربية في نشوئها وتكوينها ومراحل تطورها، هذه القومية العظيمة التي وثبت اليوم وثبتها القوية الجبارة! أفلا يجدر بنا - وهذا هو دور الحجاز منذ القدم - ان ندرس حياته وخصائصه، وشخصيته الادبية والفنية، وجميع مقوماته السامية؟! واذا كانت اللغة هي احدى عناصر القومية، أفليس من الواجب ان ندرس الى اي حد اثر الحجاز عامة، ولهجة قريش خاصة، في تهذيب اللغة العربية، وترقيتها، وتوحيدها، حتى اصبحت اللسان القومي للامة العربية جمعاء؟! ثم ما هو موقف الحجازيين من العقيدة، ووحدة الاماني المشتركة والتبادل التجاري، ونمو الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وجميع العوامل التي تعتبر عناصر هامة للقومية العربية؟ ما هو موقفهم من ذلك كله؟ لنرى اي اثر تركه الحجازيون في تخليص العقائد من الخرافات والاباطيل، لان هذه التنقية وسيلة هامة من وسائل التوحيد.. واي اثر كان لهم في الرقي الاقتصادي والاجتماعي؟ لان هذا الرقي من اعظم الدعائم للرخاء والاطمئنان وضم الصفوف، ثم اي اثر لهم في اقرار السلام؟ لان السلام كان ولا يزال عاملا جوهريا للاتحاد ولاسيما في بيئة مزقتها الحروب والاحقاد، ثم ماذا فعلوا في محاربتهم للطغيان؟ فان استبداد الحاكم يبعث على الخوف، ويقضي على الروح الوطنية التي هي من اقوى الدوافع لبناء صرح القومية! كل ذلك وغيره قد تناولناه بالدرس المفصل في هذا الكتاب، وبينا كيف انعكست آثاره على نتاجهم الادبي وشعره ونثره، حتى وصلنا الى نتيجة واحدة وهي ان الحجاز كان بحق - قلبا للامة العربية! ثم ان الحجاز هو بيئة النبوة، وموطن الرسالة، والارض التي اهتزت جوانبها بالصدى المدوى الذي احدثه نزول القرآن. ولذا كان من الضروري ان ندرس هذا الموطن وتلك البيئة من شتى نواحيها السياسية، والاجتماعية والعقلية، والادبية، واستعداد الحجازيين النفسي والمادي والفني، لنعرف عمق هذا الحادث العظيم الذي هز الانسانية، وايقظ الدنيا، وحرر العقل، ورفع صروح المدنية، وقضى على عصور الظلام والوحشية. وعندما نريد ان نفهم اعجاز القرآن وبلاغته الرفيعة خاصة، وان نفهم الحياة الادبية في الحجاز في عصر النبوة عامة، لابد لنا من دراسة بيئة الحجاز الادبية في العصر الجاهلي اولا وقبل كل شيء، لنفهم خصائص هذا الشعب الحجازي وعقليته وتفكيره، وذوقه في الحياة وفي الفن والادب على وجه الخصوص، لانه هو الذي حمل الدعوة وبلغها الى الآفاق، وبشر بها العالم كله، وسارت جحافله ومعه اخوانه من شتى ارجاء الجزيرة العربية توغل في الارض مبشرة بدين الله الجديد، وثورته القوية العارمة. وصفه للجزيرة العربية تطرق الاديب عبدالله عبدالجبار في مستقبل كتابه (قصة الادب في الحجاز في العصر الجاهلي) بوصف شامل للجزيرة العربية من تضاريس وتاريخ واقسام جغرافية وبيئة، حتى انه تطرق الى الآثار القديمة بها حيث وصفها قائلاً: في الحجاز مساحات كبيرة كانت آهلة بالسكان عامرة بالضياع والمزارع، ثم افلت منها الحضارة وغدت بيداء موحشة، إلا أن آثار الحضارة ما تزال ظاهرة فهناك علامات تدل على وجود زراعة سابقة في وادي الجزل شمال شرق ينبع. واذا جلنا بالطائرة شمال ينبع ما بين أملج ووادي حمض، نرى أسراراً مستديرة غريبة الشكل من الحجاز، مع سور حجري في صف واحد ممتد بشكل نصف قطر دائرة. ويظن ان قطر هذه الدائرة يبلغ 200 قدم. والى الجنوب من الوجه على الضفة الجنوبية من وادي حمض تقع بقايا يظن انها هيكل روماني. ولا تزال بعض الدرجات في موضعها، الا ان احجار الجص المحفورة حفرا بديعا غدت تستعمل كعلامات لقبور الذين كانوا يخرون صرعى من الغزوات والغارات الاهلية. وبحذاء الطريق شمالي المدينة باتباع خطة سكة حديد الحجاز القديمة تقع اولى محطة في قرية ذات اهمية وهي العلا، وهذه المدينة قائمة على مقربة من هضبات صخرية من حجر الرمل الاصفر والاحمر وتحد الاودية المنبطحة. والى بعد خمسة اميال ونصف عن العلا تقع "الخريبة" حيث توجد آثار قرية كبيرة تحتوي على بعض الكتابات وقطع الفخار. وتقع في هضاب الصخور الرملية البالغة نحو ستين قدماً والملاصقة للآثار هناك الكثير من الغرف او القبور المنحوتة من الصخور الصلبة، وفي بعض الحالات ترى الردهة كبيرة وتتسع لتابوت واحد. وقد نبشت كل القبور وسرق كل ما بها، واية كل ذلك باقية، وممن شهد السطو والكشوف احياء يرزقون. مدائن صالح: وعلى بعد 11 ميلاً من خريبة شمالا بمحاذاة سكة الحديد تقع المقابر القديمة المسماة مدائن صالح التي وصفها دوتي في كتابه "الصحراء العربية العظمى" في دقة واستيعاب. هناك حوالى ثلاثين مقبرة مقطوعة من الصخور الرملية الصفراء الناعمة. وهي تختلف في الحجم، لكن لها جميعا انفاقا لتوار فيها الاجساد. ومساحة اكبر قبر 18 قدما و9 بوصات في 13 قدما. ويبلغ السقف 7 اقدام فوق الارض، وكان الصدى يدل على انه مفرغ، ولذلك يحتمل ان تكون هناك فتحة سفلى، وتكون النوافذ احيانا خمسة اقدام تحت سطح الارضية الرئيسي، وتمتد 5 او 6 اقدام داخل جدران الغرفة. وفي خارج قبور مدائن صالح يرى وجه الصخرة مقطوعا بشكل مصقول على شكل عمودي، ومدخل القبر باب مثلث الشكل ويكون عادة على الاقل 3 اقدام في 7 اقدام، ومحاطا ببيت محفور حفرا بديعا. وفي كثير من الحالات يرى نسر محفور على قمة المدخل المثلث الشكل، كما نجد مثل هذا النسر محفورا على كل طرف بحذاء جوانب الباب، ورؤوس هذه النسور واجسامها قد ازالها البدو الذين يعتقدون ان الله فقط هو الذي يخلق الجسم الحي، وكل من يحاول ان يقلد صنع الله فانه يقترف وزر تدنيس الاحياء. وتحت قبة بعض ممرات الابواب المثلثة وجه آدمي محفور منبسط ودائري مضحك الشكل، يحيط به من كلا جانبيه ثعبان منطرح بموازاة ميل الباب المثلث ويمتد من القمة الى الزاوية السفلى. ومن اهم ما عثر عليه من آثار ثمود هرم يعرف بقصر البنت وقبر الباشا والقلعة والبرج. الآثار في منطقة الطائف: والى الغرب من الطائف عدد كبير من النقوش الكوفية ذات الزوايا، وغالبا ما تكون آيات قرآنية وعبارات دينية تبركا وزلفى الى الله. وهناك ايضا عدة صور لحيوانات محفورة في الصخور الجرانيتية وتمتد فترة الخط الكوفي في الخطوط التاريخية القديمة من 700 بعد الميلاد الى 1120م. وعلى بعد بضعة اميال الى الجنوب الشرقي من غربي الطائف دلائل على حضارة مندثرة غابرة. اما الآثار الاسلامية في منطقة الحجاز فهي كثيرة مشهورة، وسنتحدث عنها في مواضعها من اجزاء من هذا الكتاب. النثر الحجازي: يستطرد الاديب عبدالله عبدالجبار في وصف الصورة العامة للنثر الحجازي فيقول: كانت العرب امة صناعتها الكلام، ومفخرتها البيان وكان اهل الحجاز من بينهم خاصة اهل لسن وفصاحة، ويزدهيهم القول، وتأخذ بألبابهم البلاغة، وقد أثر لهم من جوامع الكلام، ونوابغ الحكم، وروائع الاساليب، ما يعد على وجه الزمان من مآثرهم الخالدة، ومناقبهم الباقية، ولا غرو فقد كان الحجازيون من ابلغ العرب لسانا، وافصحهم بيانا، اجتمع لهم من الخطابة والفصاحة، والبيان العجيب، والقول المصيب، والكلام الغريب، والمنطق الساحر، ما روته اسفار الادب وازدانت به لغة العرب. والبلاغة العربية الحجازية تتبدى في مظهرين: 1- الشعر الذي يعتمد على الايقاع الموسيقي والوزن والقافية، وعلى الخيال والعاطفة. 2- النثر، وهو لون من الكلام لا تحده في الغالب قيود الوزن والقافية، بل هو اساليب سلسة، ينطقون بها عند المشاجرة والخصام، وعندما تقتضي الدواعي المتباينة منهم الكلام، فتفيض بها بديهة حاضرة، وقريحة مواتية، وطبيعة طبعة مستجيبة. النثر الحجازي الجاهلي كانت للحجازيين نثر فني صيغ في قالب ادبي يثير المشاعر ويحرك العواطف، لانهم كانوا ينطقون باللغة كما صنعوها على اعينهم، نقية من الشوائب، فقد عاشوا في جزيرتهم بعيدين عن المؤثرات التي تضعف الملكات، ومن ثم فقد كان نثرهم منخولا ينزع عن قوس الاجادة ويصدر عن وحي الطبع والملكة السليمة، وليس من شك ايضا ان هذا النثر كان لا منتدح منه في جميع شؤونهم، وأمور حياتهم، يتحدثون به في معاشهم وتبين به شفاههم لتصوير ما يعتلج بنفوسهم ويختلج بافئدتهم، وكان ملحمة لقراع الالسنة ومباراة البلغاء في مضمار البيان والاسواق الادبية، ولم يكن للعرب عند تفاقم الفتن ولا للابطال في معمعة الحروب ولا للامهات عند اهداء بناتهن، مناص من كلام يستأصلون به شأفة الفتن، ويحمسون به النفوس ويصيبون به مقاطع الرأي. ولا نكاد نهتدي الى صورة جلية تمثل هذا النثر الجاهلي الحجازي، فكل ما وصل إلينا قل من كثر، وغيض من فيض. ولقد ذكر الرواة ان ما وصلنا من ادب ليس إلا أقله، ولكن ما وصل إلينا من النثر كان أقل شأنا من الشعر، ومرد ذلك الى: 1 - ان العرب في الجاهلية كانوا أميين لا يكادون يقراون او يكتبون فكانوا يعتمدون في رواية الادب من نثر وشعر على المشافهة والاستظهار، والذاكرة اقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر وروايته. فإن ما للشعر من اوزن راقصة، ونغمات موسيقية، وقواف متزاوجة، وجرس عذب مثير، يعين على استذكاره واستظهاره، والنثر ليس بهذه المثابة، فالنثر اذن يتطلب معرفة الكتابة وهي اختراع متأخر. 2 - لم يستطع النثر منذ ان اطل برأسه الى الحياة ان يباري الشعر في عهد الجاهلية، وان يقوى على معالجة الموضوعات التي عالجها الشعر، فقد كان الشعر ديوان العرب سجلوا فيه حروبهم واخبارهم وعاداتهم وعقليتهم، ودون فيه الشاعر ما رأى وما شعر، ومزج فيه الحياة التي حوله بمشاعره، وكان الشاعر لا منتدح منه للقبيلة يعلن مناقبها ويذود عن حياضها وينافح عن شرفها ويحمي حماها، وكان الشعر في الحرب كموسيقى الجيش تثير في النفوس الميل للقتال وتبعث على الاستبسال، اما موضوعات النثر فلم تك بهذه المثابة، فعنى الناس بحفظ الشعر، ولم يعنوا بحفظ النثر. 3 - النثر وليد العقل وسعة الثقافة، والشعر وليد الخيال، والأمة في بادئ امرها خيالها اكبر من عقلها. ويمتاز النثر الحجازي بمساوقته للطبع وجريانه على الفطرة، فليس فيه تكلف ولا تطرف ولاغلو، ينزع عن قوس البادية، ويمتح من ينابيع البيئة، ومن ثم فقد جاء قوي اللفظ متين العبارات فحل الاسلوب قصير الفقرات قريب الاشارة. وانما نعني بالنثر ها هنا: النثر الفني الذي يحتفل به قائله، ويجود فيه، ويهذب من حواشيه، ويعنى بصياغته صياغة فنية مؤثرة، يعبر به عن اجمل ما في نفسه وخواطره من معان وافكار. ولا نقصد به ما يجري على ألسنة الناس في شؤون الحياة العادية، مما نسميه لغة التخاطب" التي لا يقصد فيها الى جمال فني، ولا النثر العلمي لانه لم يكن للحجازيين في الجاهلية نثر علمي، وانما جد ذلك المظهر في أواخر عصر بني امية واوائل عصر دولة بني العباس، فالنثر العلمي ليس لونا من الوان الادب، وان كان الادب يعني به لانه اثر من آثار العقلية التي تنشئ الادب، اذ هو مغذى الثقافة العقلية والادبية، ثم هو مما يصقل مواهب الاديب، ويمده بزاخر المعاني والافكار والموضوعات، وقد يكون النثر العلمي في بعض الاحايين ادبا اذا حرص صاحبه فيه على اداء الحقائق باسلوب بليغ، وكلام رصين مختار. والنثر الفني الوان متعددة: 1- فن الكلام المرسل الذي لم تقيد فقراته بوزن او قافية كخطبة هاشم ابن عبد مناف القرشي التي يقول منها: "يا معشر قريش: انكم سادة العرب، احسنها وجوها، واعظمها احلاما، واوسطها انسابا - يا معشر قريش: انكم جيران بيت الله، اكرمكم الله بولايته، وخصكم بجواره، دون بني اسماعيل الخ" ويسمى هذا النوع نثرا مرسلا. 2 - ومنه ما يجيء من الكلام المنثور متحدا في فواصله في الوزن دون اتفاق في القافية، ويسمى هذا اللون من النثر مزدوجا، والاتيان به كذلك ازدواجان وقد يسميه البديعيون "موازنة". 3 - ومنه الكلام المسجوع الذي تتحد فواصله في الحرف الاخير، وهو ما يسمى بالقافية، مثل وصية ابي طالب لوجوه قريش حين حضرته الوفاة: "يا معشر قريش، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا الا احرزتموه، ولا شرفا الا ادركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به اليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم الب، ويسمى مثل ذلك سجعا، وقد يسمى ما اتفقت الفواصل فيه في الوزن والقافية سجعا او ازدواجا، مثل كلام ابي طالب السابق، ومثل قول الحكم في المنافرة بين هاشم بن عبد مناف وامية بن عبد شمس "والقمر الباهر"، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر لقد سبق هاشم امية الى المفاخر، ويغلب السجع في كلام الكهان، وبعض علماء البلاغة لا يمنعون ان يسمى ما جاء في القرآن من ذلك سجعا، ومنهم ابو هلال وابن سنان وابن الاثير، خلافا للباقلاني وانصاره، الذين يرون تسمية الجمل القرآنية فواصل، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى : "كتاب احكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير"، وهذا منع لتبادر الفهم الى ان القرآن يشبهه شيء من الآثار الادبية، واكبار له عن ان يقال له سجع. الشعر الحجازي في العصر الجاهلي ويمكن تقسيم الشعر الجاهلي من حيث الصحة والوضع الى ثلاثة اقسام: الشعر الصحيح، الشعر المنحول، الشعر المختلف عليه 1- الشعر الصحيح: فأما الشعر الصحيح ، فالواقع ان رواة الشعر قد اجمعوا على كثير من الشعر الجاهلي ولم يختلفوا إلا في بعضه، قال ابن سلام: وقد اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الاشياء، اما ما اتفقوا عليه، فليس لاحد ان يخرج منه، وقال في اجماعهم على الموضوع من الشعر: "وليس لاحد - اذا اجمع اهل العلم والرواية الصحيحة على ابطال شيء منه - ان يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي. وهذا النص يكشف لنا عن مدى تقريرهم لاجماع الرواة في رواية الشعر، سواء منه الصحيح والمنحول، فما اجمعوا على صحته قبلناه، وما اجمعوا على وضعه رفضناه.ومما اعتمدوا عليه كذلك في صحة الشعر، وجود القصيدة او الابيات في ديوان الشاعر او ديوان القبيلة مما رواه العلماء الثقات، يقبلون منه ما يجيء في صور اليقين والجزم، ويقفون او يشكون فيما اختلف فيه، وربما قلبوا النظر فيه واصدروا عليه احكاما نقدية خاصة. وقد اورد ابو الفرج الاصبهاني قصيدة لدريد بن الصمة، رواها ابن الكلبي، عدتها ثلاثة عشر بيتا، ومنها قوله: أمن ذكر سلمى ماء عينيك يهمل كما انهل خرز من شعيب مشلشل وماذا ترجى بالسلامة بعدما نأت حقب وابيض منك المرجل وحالت عوادى الحرب بيني وبينها وحرت تعل الموت صرفا وتنهل قراها اذا باتت لدى مفاضة وذو خصل نهد المراكل هيكل وعلق ابو الفرج على هذه الاشعار والاخبار التي وردت فيها بقوله: وهذه الاخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبى موضوعة كلها، والتوليد فيها بين وفي اشعارها، ويستدل على وضعها بقوله: وما رأيت شيئا منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات. وقد يحكمون ذوقهم الادبي الذي صقلته التجربة وطول الدرس والمعاناة في تمييز الصحيح من الفاسد من الشعر، الى جانب المقاسين السابقين، وهما: أ - اجماع الرواة. ب - وجود الشعر في ديوان القبيلة او الشاعر. واذا ما اطمأنوا الى صحة الشعر الذي يوردون وصفوه بعبارات تثبت صحته وقدمه، كما فعل ابو عبيدة حين اورد شعرا جاهليا، ووصفه بقوله انه "الشعر الثابت الذي لا يرد"، وكما فعل الواقدي حين اورد شعرا لحسان، وعلق عليه بقوله: "ثبت قديمه"، وغيرها ذلك من العبارات التي تدل على القطع واليقين. 2 - الشعر المنحول: واكثر هذا الضرب هو ما وضعه القصاص ليزينوا به قصصهم، ويتلمسوا به الثقة في نفوس السامعين او القارئين، وما وضعه بعض الرواة ليثبتوا به نسباً او يدلوا به على ان لبعض العرب قدمة سابقة. وقد ارسل الواضعون لانفسهم العنان، فنسبوا شعرا لاناس لم يقولوا شعرا قط، بل اوغلوا في ضلالهم فوضعوا شعرا على لسان بعض العرب البائدة كعاد وثمود، بل على لسان آدم ابي البشر - عليه السلام - وغيره من الانبياء. وقد هاجم ابن سلام محمد بن اسحق، عالم السيرة المعروف، الذي ضمن سيرته اشعارا كثيرة موضوعة، فقال في معرض نقده له: "افلا يرجع الى نفسه فيقول: "من حمل هذا الشعر؟ ومن اداه منذ آلاف السنين؟ والله تبارك وتعالى يقول: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا"، اي لا بقية لهم. وقال ايضا: "وانه اهلك عادا الاولى، وثمود فما ابقى" والشعر اما ان يكون موضوعا على وجه اليقين القاطع، او على الترجيح الغالب. ومن السهل اكتشاف امره وافتضاح سره، فهو لا يكاد يخفى على الباحث. 3 - الشعر المختلف عليه: واما الشعر المختلف عليه، فيظهر للقارئ المتعجل عظيما كبير القدر، ولكنه في الواقع ليس بالكثرة التي يبدو بها، فقد يروي الثقة ديوان شاعر عن روايتين او ثلاث من الطبقة الاولى، فيورد كثيرا من قصائد الديوان والاجماع منعقد على صحتها. الشعر الحماسي تحتل الحماسة مكانا بارزا في الشعر العربي عامة والشعر الجاهلي خاصة حتى ان ابا تمام حين جمع مختاراته المشهورة وضمنها الابواب العشرة الآتية: الحماسة، والمرائي، والادب، والنسيب، والهجاء، والاضياف والمديح، والصفات، والسير والنعاس، والملح، ومذمة النساء، اطلق عليها اسم "ديوان الحماسة" باسم أول باب فيها وهو "الحماسة" الذي يستغرق نحوا من نصف الكتاب تقريبا وليس ذلك محض مصادفة بل لاهمية الحماسة التي تشير الى الفضائل التي يفخر بها العرب، كالشجاعة في المعركة، والصبر عند المصيبة، وصد القوى، والسعي الكادح لنيل المراد، وعدم الاستسلام او الخضوع لما يوجب الذلة والامتهان. وقد قال معاوية بن ابي سفيان: اجعلوا الشعر اكبر همكم واكثر ادبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفتين، وقد اتيت بفرس اغر محجل بعيد البطن من الارض اريد الهرب من شدة البلوى، فما حملني على الاقامة الا ابيات عمرو ابن الاطنابة (وهو شاعر حجازي من شعراء الخزرج الجاهليين". ابت لي همتي وابى بلائي واخذى الحمد بالثمن الربيح واقحامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي او تستريحي لادفع عن مآثر صالحات واحمي بعد عن عرض صحيح والشعر الحماسي هو الذي يصور تلك المعاني السالفة من شجاعة، ونجدة وبأس، وقوة، وصبر عند اللقاء، واقدام على الموت، وحماية للجار، ومنع للحريم، وما الى ذلك من الصفات التي يعتز بها العربي، وقد ذكرنا في فصل الشعر السياسي طائفة من هذا الشعر, إلا أن مكانة الحماسة في الشعر الحجازي تجعلنا نفرد لها هذا الفصل. وقد عرف الادب الحجازي الجاهلي طائفة من الشعراء الاشراف واخرى من الشعراء الفرسان الذين جمعوا بين الشجاعة والبطولة، وبين الموهبة الشعرية الفائقة، وثالثة من الصعاليك الفاتكين فمن السادة، الحصين ابن الحمام المرى، وابو قيس بن الاسلت الاوسي، وعمرو بن الاطنابة الخزرجي، ومن الفرسان: قيس بن الخطيم، وابو محجن الثقفي الذي ادرك الاسلام، ومن الصعاليك الشنفري، وتأبط شرا. وكان للحجازيين في هذا اللون من الشعر باع طويل، حتى انهم كانوا يرون الموت على الفراش سبة وعارا، اما في ميادين الحرب وتحت ظلال القنا والسيوف فشرف اي شرف. قال السموأل بن عاديا: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل