كما أن لكل شيء تاريخ، فالقراءة أيضًا لها تاريخ، وتاريخها لا يتجزأ عن التاريخ الإنساني على هذه الأرض، فعلاقة القارئ بالكتاب الذي بين يديه، أبلغ ما يعتقد عنه الأغلبية. يذكر آلبرتو مانغويل قصة عن الكاتب الكفيف بورخيس الذي صاحبه لمدة عامين من أجل أن يقرأ عليه، بأنه كان يرفض استخدام العصا ليرتكز عليها، بل كان يتلمس ظهر الكتب الموجودة على الرفوف، كما لو أنه يستطيع قراءة العناوين بأنامله. آلبرتو مانغويل كان يريد أن يصف لنا هذه العلاقة، من خلال استشهاده بالكثير من القصص التي حدثت للقرّاء على مدى العصور، كالقصة التي تعود للقرن العاشر لأبي القاسم إسماعيل، التي كانت مكتبته تبلغ 117000 كتاب، ترافقه في جميع رحلاته، كان ينقلها معه في قافلة من أربعمئة بعير، مصنفة حسب الحروف الأبجدية. كذلك قصة أكبر سارق للكتب (الدوق ليبري)، فقد كانت سرقة الكتب في القرن السابع عشر لا تعتبر جريمة يعاقب عليها إن لم يقم السارق ببيع الكتب، وغيرها الكثير، كل تلك القصص تثبت لنا أن علاقة الإنسان بالكتاب علاقة حيّة، أشبه بعلاقة الإنسان برفيقه، يختزن فيها الإدراك، والشعور، والإنصات، والذكريات. ولكن آلبرتو يراهن لنا على أن الكتاب خير من كل الرفاق كما قيل، إنها علاقة ينتج منها الإنسان الفوائد التي لا يتسع عمره لها، بل تحتشد بين دفتي ذاكرته فيخيّل له بأنه عاش حيوات كثيرة، يقول مفكرنا العقاد في هذا الصدد "أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة". فالكتاب هو ذاكرة العالم وأشد ما كان الإنسان يحافظ عليه لئلا يضيعه. فالقارئ عندما يشرع في القراءة، تنفتح في مخيلته شاشة كشاشة التلفاز يظهر من خلالها كل ما جال في العالم من قصص، وعلوم، وأديان، وتجارب، وهذا ما أجاز للعقاد أن يقول "إنني طفت العالم من مكاني"، يشرح لنا آلبرتو كيف يتم هذا التفاعل، ذاكرًا مقولة أغسطينس في وصفه للعين بأنها "بوابة الدخول إلى العالم".