يجمع كتاب"المكتبة في الليل"لألبرتو مانغويل ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، 2012 بين القالب القصصي الممتع والمحتوى العلمي الرصين الموثّق بالأرقام والتواريخ والوقائع. بين هاتين الصفتين يمضي مانغويل بقارئه نحو فضاءات الكتب والمكتبات. وهو إذ يفعل ذلك لا يسعى إلى وضع كتاب جديد حول تاريخ المكتبات في العالم تضاف إلى كتب كثيرة في هذا الصدد، وإنما ليكشف سر هذا الشغف بصفحات الكتب، والهوس بتجميعها وترتيبها ضمن رفوف على مدى سنوات وسنوات، ومن ثم، وقبل هذا وذاك، الكشف عن سر علاقة الإنسان بالكتاب، وبالقراءة تالياً، على الأقل من خلال تجربته الشخصية. وهو لا ينفي هذا الجانب الشخصي، فالكاتب والروائي الأرجنتيني، الذي ولد في بيونس آيرس وعاش في كندا ويقيم، حالياً، في فرنسا، ينطلق من مكتبته الخاصة التي شيدها فوق حظيرة ماشية تعود إلى القرن الخامس عشر، وتقع على تلة في قرية منسية في الجنوب الفرنسي. يستهل مانغويل كتابه بالقول:"كانت المكتبات، تبدو لي دائماً أمكنة مجنونة على نحو ممتع، وبقدر ما تسعفني الذاكرة كنت مفتوناً بمنطقها الشائك، الذي يفيد بأن العقل، إن لم يكن الفن، يحكم الترتيب المتنافر للكتب". ويروي صاحب"تاريخ القراءة"متعة المغامرة حين يجد نفسه وسط أكداس الكتب،"مؤمناً بشكل خرافي بأن الهرمية الراسخة للحروف والأرقام ستقودني ذات يوم لغاية موعودة... في ظل هذا الوهم المتناغم، قضيت نصف قرن بجمع الكتب. وبكرم لا حد له، قدمت لي كتبي كل أنواع الإشراقات، دون أن تسأل شيئاً بالمقابل". بهذا الإحساس الممجّد لقيمة الكتب، يطرح مانغويل أسئلته حول علاقة المرء بالكتاب والمخطوطات والموسوعات، وبتلك الكتب الإلكترونية التي استحالت، الآن، حروفاً خرساء على شاشة مضيئة. يبحث في المعنى العميق لاقتناء الكتب وبناء مكتبة، ويحاول فهم تلك الروابط الخفية التي تنشأ بين القارئ والكتاب. لا يستطيع القارئ، وهو يتصفح هذا الكتاب، أن يتجاهل قصة"مكتبة بابل"لبورخس. في هذه القصة تصبح صورة مكتبة ضخمة لا نهائية، مجازاً للكون. وكان مانغويل ممن يقرؤون الكتب لمواطنه بورخيس 1899 - 1986 الذي فقد بصره. ويبدو أن هذه الصداقة تركت أثراً عميقاً لدى مانغويل الذي يتحدث، هنا، عن العلاقة الاستثنائية التي ربطت بين بورخيس والكتاب. كان بورخيس يولي أهمية قصوى لمسألة التلقي، مستشهداً بفكرة لبيركلي تقول:"إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، فالتفاحة بذاتها لا طعم لها، وليس الطعم في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل بين الاثنين". والشيء نفسه، كما يرى بورخيس، يحدث مع الكتب"فالكتاب هو شيء مادي في عالم أشياء مادية. إنه مجموعة رموز ميتة. وعندما يأتي القارئ المناسب، تظهر الكلمات إلى الحياة... ونشهد، عندئذ، انبعاثاً للعالم". ويضيف:"عندما أنظر إلى الكتب الكثيرة التي لدي في البيت، أشعر بأنني سأموت قبل أن أنهيها، ولكنني لا أستطيع مقاومة الإغراء بشراء كتب جديدة. وكلما ذهبت إلى مكتبة، ووجدت كتاباً حول أحد الأمور التي تستهويني، أقول لنفسي:"يا للأسف، أنا لا أستطيع شراء هذا الكتاب، لأن لدي نسخة منه في البيت". هذه الفلسفة"البورخيسية"تتحكم، بهذا القدر أو ذاك، في قلم مانغويل الذي يؤمن بجملة مالارميه:"إن العالم وجد كي يوضع في كتاب جميل". وهو يرى أن قوّة القرّاء"لا تكمن في قدرتهم على جمع الكتب وترتيبها وفهرستها، بل في موهبتهم في تفسير ما يقرؤون، فالمعرفة لا تكمن في تراكم النصوص والمعلومات، ولا في مادة الكتاب نفسه، بل في التجربة المستقاة من الصفحة". وهو يستشهد، هنا، بما قاله الفيلسوف والرياضي لايبنتز:"إن قيمة المكتبة تتحدد فقط بمحتواها والفائدة التي يجنيها القراء من هذا المحتوى، لا بأعداد مجلداتها أو ندرة مقتنياتها النفيسة". لكن ذلك لا يعني أن مانغويل غير آبه بالتباين القيمي بين كتاب وآخر، فهو يخبرنا عن قانون كان سارياً في نهاية القرن الأول الميلادي في مدينة ليون الفرنسية، يجبر الخاسرين في المسابقات الأدبية على محو كتاباتهم بألسنتهم لكي لا يبقى أدب من الدرجة الثانية موجوداً. وليس مستغرباً أن يعارض مانغويل، الشغوف بالكتاب، عمليات تحويل الكتاب الورقي إلى كتاب إلكتروني وإلى مايكروفيلم. هو يحشد الأدلة كي يقنع نفسه والقارئ بتلك الحالة الروحية السامية التي تنتاب القارئ الحصيف وهو يتصفح الكتاب الورقي"الدافئ والحنون". النص المستحضر عبر الشاشة، كما يشرح مانغويل،"هش، وليس له تاريخ، والعارفون بالكمبيوتر يدركون مدى سهولة فقدان نص على شاشة لمجرد أن القرص معطوب، أو أن الجهاز تعرض لفيروس غامض". جنة مانغويل هي المكتبة. لكن ليس في كل الأوقات بل في الليل تحديداً، كما يشير عنوان الكتاب. "في الليل حين توقد مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجي ولا يبقى في الوجود سوى فضاء الكتب"، يقول مانغويل ويسترسل في شرح هذا البعد الوجداني حول علاقته بالكتاب:"المكتبة في النهار هي مملكة النظام، يتنقل القارئ بين ممراتها بهدف واضح، باحثاً عن اسم أو صوت ويعثر على كتبه طبقاً لأمكنتها المخصصة ضمن المجموع. لكن في الليل الجو يتبدل. الأصوات تمسي مكتومة، والأفكار يعلو صوتها، يبدو الوقت أقرب لتلك اللحظة بين النوم واليقظة، والتي يغدو فيها إعادة تخيل العالم سهلاً. عيناي ويداي، وهي حرة من القيود اليومية في ساعات الليل المتأخرة، تطوف بلا غاية بين الصفوف المتراصة، ترمم الفوضى. كتاب يدعو، على نحو غير متوقع، كتاباً آخر، كي يقيم تحالفاً بين ثقافات وأزمان مختلفة. سطر يترجع صداه في واحد آخر لأسباب تظل، في وضح النهار، غير واضحة. إذا كانت المكتبة في الصباح توحي بصدى نظام واقعي بسيط ومعتدل للعالم، فإنها في الليل تبدو منتشية وسعيدة بفوضى العالم". بهذه النبرة الشاعرية يمضي مانغويل في الحديث عن كتب مستعملة اقتناها، فوجد بين صفحاتها إشارات لقراء عانقت عيونهم هذا الكتاب: اسم مجهول على صفحة البداية البيضاء، بطاقة قطار أو طائرة لتأشير صفحة معينة، ملاحظات في الهوامش، وإهداءات مدونة بعناية.... هذه الخربشات والخطوط والملاحظات تفتح الباب واسعاً أمام الذاكرة وهي ترحل بعيداً في حدائق اللغات والمفردات والحروف. وبمقدار ما تمنح المكتبات لأصحابها المتعة والصفاء، فإن في تاريخها محطات حزينة سوداء. الحكايات عن حرق الكتب، وهدم المكتبات لا تعد ولا تحصى. وأبطال هذه التراجيديات هم الساسة والرقباء. كتب كثيرة لم يكتب لها البقاء، ومكتبات ضخمة اختفت من الوجود، وثقافات شعوب كثيرة دفنت بذرائع شتى لا يمكن تبريرها. هذا الجانب المظلم له، أيضاً، مساحة في هذا الكتاب الذي يدين ذلك السلوك"الهمجي"، ويعتبر الكتاب"جوهرة نفيسة"لا بد وأن تحترم. ويبدو أن الحلم الذي يراود مانغويل في إنشاء مكتبة ضخمة تتسع لكل الكتب، لا يقتصر عليه، وعلى مواطنه بورخيس. كل القراء يحلمون بأمنية مماثلة، ولأن الأمنية مستحيلة، فإن لدى مانغويل تأويلاً مقنعاً: هذه المكتبة الضخمة موجودة في العالم نفسه، تماماً كما فهم الصينيون أن"المكتبة مرآة للعالم".