إلى جانب حرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربي المحتلة، تخوض إسرائيل حربًا أكثر ضراوة على الساحة المحلية والدولية شعارها الكذب والتضليل الإعلامي، وتشويه الحقائق وخداع الرأي العام العالمي من أجل كسب القلوب والعقول. منذ تفجر الصراع العسكري غير المتكافئ في السابع من الشهر الجاري، والحكومة الإسرائيلية وآلتها الدعائية والدبلوماسية لا تتوقف عن تحريض العالم ضد الفلسطينيين وضد حالة التحرر الفلسطينية، وشيطنتها وإلصاق تهمة "الداعشية" بها. إنها جبهة حرب أخرى تخوضها إسرائيل بلا أخلاق. وعلى الرغم من إعلان إسرائيل عن قطع الكهرباء والماء والغذاء والمساعدات الطبية، وقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين ومعظمهم من الأطفال والنساء، إلا أن إسرائيل ومن ورائها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، باستثناء النرويج، ركزت جهودها الدبلوماسية والدعائية على إدانة الهجوم الذي قام به الفلسطينيون ضد 11 معسكرًا للجيش الإسرائيلي، والمستوطنات اليهودية في قطاع غزة، وتأكيد دعمها لإسرائيل في تجاهل صارخ لحملات العقاب الجماعي والتهجير القسري وللمجازر والمذابح الإسرائيلية الفظيعة ضد المدنيين، التي تشكل انتهاكًا للقانون الدولي ولاتفاقيات جنيف، بخصوص حماية المدنيين في زمن الحرب، وهو ما يُعدُّ جريمة حرب بحسب القانون الدولي. ولم يتوقف هذا الدعم الغربي لإسرائيل عند هذا الحد، بل وصل إلى حد منع التظاهرات الداعية إلى وقف المذابح ضد الفلسطينيين، فرئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك يرى أن حماس "بربرية" على غرار وصف وزير الحرب الإسرائيلي للفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، بينما أعلن زعيم المعارضة العمالية كير ستارمر دعمه لحرب تجويع الفلسطينيين حتى الموت، التي أعلنتها إسرائيل. في خضم معركة التضليل هذه استخدمت إسرائيل جيوشًا من الصحفيين والمغردين والإعلاميين، والفنانين والمغنين والمحطات التلفزيونية لتشويه صورة الفلسطينيين، وتلميع صورة إسرائيل ككيان متمدين وديمقراطي يتعرض للتهديد من شعب "همجي"، يحدث ذلك من خلال التركيز على آخر النتائج من دون التطرق لأسباب هذا العنف الدامي وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة كما تنص على ذلك الشرائع والمواثيق والقرارات الدولية، التي لا تلتزم إسرائيل بأي منها. وعلى الرغم من أن معظم الادعاءات الإسرائيلية المتعلقة بهجوم المقاتلين الفلسطينيين ضد مستوطنات "غلاف غزة" قد ثبت بأنها كاذبة، إلا أن البروباغندا الإسرائيلية لا تزال تركز عليها وخاصة "قطع رؤوس 40 طفلاً" و"اغتصاب" المقاتلين الفلسطينيين للنساء كما يزعم الإسرائيليون. وقد تلقفت جيوش الذباب الإلكتروني هذه الأكاذيب ونشرتها مثل الفيروس، على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي اليمينية والمعادية للعرب والمسلمين، مستغلة بذلك الفوضى الحالية في شركة ميتا وفيسبوك وواتساب وX بعد التغييرات التي أجراها إيلون ماسك، والاستغناء عن الآلاف من مراقبي المحتوى والتحقق من صحته وموثوقيته. لكن هذه الأكاذيب بدأت تتكشف عندما أخذ المتلقون للرسائل الإسرائيلية، يتحققون منها حتى أن بعض الإسرائيليين أنفسهم لم يجدوا مناصًا سوى الاعتراف بأن هذه التقارير من حكومتهم ليست صحيحة، ولهذا تظاهر المئات منهم أمس أمام وزارة الحرب الإسرائيلية في تل أبيب. وهذه الحملة الشرسة ليست موجهة للخارج، بل هي موجهة لتحريض الإسرائيليين ضد "الخونة من الداخل" في إشارة إلى الفلسطينيين العرب في منطقة ال 48 وإلى اليسار الإسرائيلي بزعم تمرير معلومات أمنية للجانب الفلسطيني، ومن أجل حشد التأييد الشعبي لحكومة الحرب وحملة الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني، انتشرت دعوات للإسرائيليين لتكديس المواد الغذائية استعدادًا للحرب التي ستطول. وكان قطع الإنترنت عن قطاع غزة من مظاهر هذه الحرب بهدف منع وصول رواية الفلسطينيين للعالم ويأتي قطع الكهرباء ضمن سياسة التعتيم الإخباري لمنع نشر الفظائع والمذابح التي يتعرض لها أهل غزة. حالات التضليل الإعلامي الإسرائيلي لا يمكن حصرها، لكن حالة "قطع رؤوس الأطفال" و"اغتصاب" مقاتلي حماس للنساء يمكن أن تضيء على الحرب النفسية التي تشنها إسرائيل للتأثير في الرأي العام العالمي. لقد انتشرت قصة "قطع رؤؤس الأطفال" مثل انتشار النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقلتها وسائل الإعلام الأميركي ومنها محطة CNN ومديرة مكتبهافي تل أبيب كريستين أمانبور، التي خصصت معظم التغطية ل"شهود" يهود يحكون ما حدث لهم ما جعلها تبكي وهي في حالة من الصدمة والرعب. ولأن حبل الكذب قصير، كما يقال، وفي عصر الإعلام الرقمي، لم يعد من السهل تمرير الأكاذيب بهذه البساطة إلا على الجهلاء أو المنافقين. ولهذا اضطرت مراسلة ال CNN إلى الاعتذار عن هذه الرواية، لأنها لم تتحقق منها قبل بثها، وبعد الانتشار الواسع لفيديو يظهر جانبًا من تغطية هذه المحطة للأحداث في قطاع غزة والمستوطنات الإسرائيلية، اضطرت المحطة لإصدار بيان قالت فيه بأن هذا الفيديو "مفبرك" و"غير دقيق"، وقد بثت المحطة هذا الفيديو يوم الاثنين الماضي وظهرت فيه مراسلتها كلاريسا، وارد وطاقمها وهم ينبطحون على الأرض للاحتماء من هجوم فلسطيني وهمي على إسرائيل، وقد سُمعت المراسلة وهي تصرخ من الخوف، لكن تبين أن ما قامت به كانت تمثيلية وأن هناك من كان يوجهها للقيام بذلك. كذبة "قطع رؤوس الأطفال" انطلت حتى على الرئيس الأميركي جو بايدن، لأن بنيامين نتنياهو رواها له على الهاتف، فقال "لم أكن أعتقد بأني سأعيش إلى اليوم الذي أرى فيه أطفالاً مقطوعي الرؤوس". لكنه شعر بالحرج عندما تبين أن نتنياهو كذب عليه. لكن وزير خارجيته أنتوني بلينكن لا يزال مقتنعًا بأن الصور التي أراها له نتنياهو صحيحة، بينما ذرف المتحدث باسم البيت البيض جون كيري الدموع حزنًا على أولئك الأطفال. وعلى الرغم من انكشاف هذه الأكاذيب، إلا أن محطات التلفزة الغربية ظلت على انحيازها للرواية الإسرائيلية ولم تعرض ما يبين إنسانية أولئك المقاتلين، الذين لم يفعلوا أيًا من هذه الفظائع المزعومة، وقد تبين ذلك من مشاهد الفيديو التي نشروها والتي تظهر المقاتلين وهم يهدهدون الأطفال وتخفيف روعهم، وتقديم الحليب لهم بعد أن يطلبوا منهم أن يقولوا بسم الله ثم يشربوا. كما لم تعرض مشهد إطلاق سراح امرأة يهودية وطفليها والتي روت من بين دموعها كيف أن المقاتلين الفلسطينيين لم يتعرضوا لها بسوء بل "أعطوني ملابس لأستر بها جسمي". قصة مفبركة روجتها إسرائيل أشغلت العالم الذي نسي أن الجيش الإسرائيلي قتل أكثر من 700 طفل حتى الآن، في الغارات الجوية الإسرائيلية على المناطق السكنية في قطاع غزة، و495 طفلاً في عام 2014، و344 طفلاً فلسطينيًا في عام 2008 وأكثر من 50 طفلاً في الضفة الغربية في هذا العام فقط. والأرقام مرشحة للارتفاع. وهذه مذابح لا يتذكرها العالم الغربي الذي انخدع بالأكاذيب الإسرائيلية. وقد استغلت بعض الفيديوهات التي روجت لها آلة الحرب الإسرائيلية على X، تويتر سابقًا، جهل كثير من المتلقين أو خداعهم، فقد نشر إيان مايلز شيونغ، وهو صديق مقرب من ألون ماسك، أحد الفيديوهات، مع شرح يزعم بأن مقاتلي حركة حماس يقتلون إسرائيليين، وقال: "تصوّر لو أن هذا حدث في الحي الذي تسكن فيه، أو لعائلتك"، وقد تبين لاحقًا بأن المسلحين في الفيديو كانوا من الشرطة الإسرائيلية، كما تبين أن كثيرًا من الفيديوهات كانت من ألعاب الحرب التي تم التلاعب بها أو مشاهد من الحرب الأهلية في سورية أو ليبيا. لقد أنشأت إسرائيل واستخباراتها كثيرًا من غرف العمليات لتضليل العالم، والتعتيم على عمليات ذبح الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر منذ 16 عامًا. ويساعد إسرائيل في ذلك الإمكانيات والقدرات الضخمة التي تمتلكها والتي يفتقر إليها الفلسطينيون، لكن على الرغم من ذلك فإن هذا العالم لا يخلو من الأصوات الحرة والضمائر الحية التي تتصدى لهذه الأكاذيب والأباطيل اليهودية، فقد كتب بيتر بولتون في نشرة كاونتربنش counterpunchالأميركية تقريرًا يوم 13/10 بعنوان التضليل الإعلامي والتغطية الإخبارية الانتقائية هما العمودان الرئيسان لآلة الحرب الدعائية الإسرائيلية. وجاء في التقرير أن التكتيك الآخر الذي تتبعه إسرائيل، بالإضافة إلى الأكاذيب وتشويه الحقائق، هو التغطية الإخبارية الانتقائية مثل التركيز على مزاعم اغتصاب المقاتلين الفلسطينيين للإسرائيليات، لكن الكاتب استشهد ببحث استقصائي أكاديمي، أكد فيه أن الجنود وحراس السجون الإسرائيليين هم من يقومون بهذا الفعل بحق النساء الفلسطينيات. واختتم الكاتب تقريره بالقول "علينا أن نؤكد باستمرار أن إسرائيل وتابعيها في وسائل الإعلام الكبيرة المملوكة من الشركات، تتقن نشر المعلومات الكاذبة عن الفلسطينيين وهي معروفة بطرقها الخبيثة في التغطية الاخبارية الانتقائية، لتصوير إسرائيل على أنها الضحية الوحيدة للصراع. لذلك، مع استمرار الإسرائيليين لحشد الدعم لحربهم الشاملة ضد غزة، فإن الصحافة المستقلة تتحمل مسؤولية كبيرة، لفضح هذه الممارسات الخبيثة والمعايير المزدوجة المخزية". وجاء في تقرير لمحطة NBC أن إسرائيل تشن حملة بروباغندا منظمة على تطبيق X لغايات التضليل الإعلامي عن حربها ضد قطاع غزة، وأن المحطة اكتشفت 67 من حالات التضليل هذه تقوم بها مجموعات ومنظمات ووكالات استخباراتية. وفي محاولاتها لطمس الحقيقة، لا تتورع إسرائيل عن إرهاب الصحفيين وقتلهم، كما حدث في جنوبلبنان قبل يومين. كما لا تتورع عن إرهاب كل من يرفع صوته للتعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته كما حدث أثناء التظاهرات في جامعة هارفارد وجامعة كولومبيا في لوس أنجلوس. لقد بات واضحًا الآن، بأن هدف الدعاية الصهيونية هو نزع صفة الإنسانية والبشرية عن الفلسطينيين، لتسويغ ذبحهم وبمباركة من العواصم الأوروبية والإدارة الأميركية. إنها تصر على إقناع العالم بأن الفلسطينيين إرهابيون وهي التي نشأت على أشلاء الشعب الفلسطيني، من خلال اقتراف أبشع المجازر التي قامت بها عصابات الأرغون والهاغانا والأرغون، ومحو مئآت القرى الفلسطينية من على الخارطة. لا حاجة للقول إن الإسرائيليين كذابون، وأن رئيس وزراء هو كبيرهم الذي ينقلون عنه الكذب. وربما بأن الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، في حديث خاص مع نظيره الأميركي، باراك أوباما، يوم 8 نوفمبر ،2011 ، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو بأنه كذاب، فرد الرئيس الأميركي على نظيره الفرنسي بالقول إذا كنت سئمت منه، فأنا مضطر للتعامل معه كل يوم.