في دراسات الاتصال الجماهيري كان هناك اهتمام بمسألة الهيمنة الثقافية عبر وسائل الإعلام.. خاصة التلفزيون والسينما كونهما وسيلتان وأسلوبان مباشران لنقل المحتوى بتفاصيله المقصودة، ودلالاته الخافية. والثقافة هي وعاء الهوية تتكون من مزيج التصورات، والقناعات، والقيم، والأفكار العملية والعلمية.. وتعزز شعور الهوية، وتنظيم المجتمع، وفهم التقاليد والقيم المشتركة التي تعتبر جميعها محورية لتحديد نمط العيش، والتفاعل مع الآخر، وتطوير الذات، ومواجهة الحياة وتنظيم مجتمع ما. مع اجتياح الوسائل التواصلية الزمان والمكان، سادت متغيرات ومستجدات على واقع التفاعل المجتمعي والسلوك الفردي، وتشكلت أبعاد وملامح جديدة للعلاقة بين الوسيلة والمستخدم وحاجاته المختلفة، وصارت التفاعلية التواصلية جزءاً من الثقافة السائدة لدى الجميع، فكانت اللغة والحركات والإشارات والإيماءات، واستخدام سمات وسيلة التواصل عناصر ثقافية، وأدواتاً في الوقت ذاته لبث الثقافة واسترجاعها. والثقافة كونها ميزة متفردة، وخاصية ذاتية قد لا يتمكن الكل من تملكها المعنوي، حيث تحظى بها فئة مجتمعية تمثل نخبة استطاعت الاستفادة من المصادر المعرفية، كالكتب ووسائل الإعلام وتبادل الرؤى والتجارب، حيث تهيأت لديهم تلك الفرص ثم ساهمت في تكوين ملامح وعيهم وسمات فكرهم، من هنا تشكلت مايسمى بالنخب الثقافية في كل مجتمع، حيث يعتمد عليها في تبني المشروعات الثقافية وتنميتها، وإبراز الرصيد الثقافي وتسويقه من خلال جهودهم الذاتية، وإنتاجهم المعرفي، وأطروحاتهم العميقة التي تتيح مساحات لتبادل الوعي، والتنمية المعرفية. وحين نتأمل واقع اليوم نرى أمرين، أولهما هو التشوه الثقافي واختلال المعايير التي تصنف المثقف عن غيره، وثانيهما أن النخب بكل أنواعها عامة والثقافية خاصة ذابت معانيها وتأثيراتها في قوالب الغزو التواصلي الرهيب، الذي رسم خرائط العلاقات المختلفة، وعبث بالقيم في المجتمع، وبعثر الرؤى المؤصلة، وخالف العرف السائد.. من هنا فقدت النخبة رمزيتها المعروفة، ومكانتها التقليدية فباتت النخب أسيرة للواقع التواصلي، حيث سيّرها باتجاه الانغماس في تلك المستجدات. ولم يعد تفاعل تلك النخب مع الجمهور أو العكس من خلال أدواتهم وطرائقهم القديمة، بل تأثروا واستكانوا إلى طرق وتداعيات التواصل.. ولم تعد الثقافة التواصلية تقدم نخباً فريدة وثابتة في المجالات المختلفة، سواء في السياسة والفن والاجتماع والفكر، فعاش المثقف النخبوي اغتراباً حقيقياً، وانعزل عن إحساس الآخر به وبقيمته. ويبقى القول: في فضاء الثقافة القرائية والكتابية كانت تصنع الثقافة ورموزها بجودة عالية، أما في زمن انتشار الثقافة البصرية وسيطرة الصورة، فقد حلت النجومية القائمة على ما يمثله أحدهم من دور وتأثير آني وليس بما يمثله من مواصفات فكرية وثقافية، فكان الزحام في سوق التواصل تعبوياً وليس نخبوياً، وصارت قدرة الجمهور على تصنيف النخب وتقديرها متواضعة جداً.. ما معناه أن تأثير التواصل هو ما يصنع التصنيف وليس العكس.