تترقب الأسواق هذه الأيام نتائج الندوة السنوية لبنك الاحتياطي الفيدرالي في "جاكسون هول"، والتي تجمع نخبة من أهم صانعي السياسة النقدية في أميركا والعالم، حيث تقدم الندوة الشهيرة نظرة ثاقبة للنوايا طويلة وقصيرة الأجل لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، وبما أن هذه المنصة قد تم استخدامها في الماضي للإشارة إلى التحولات الاستراتيجية الرئيسية، فإن الأسواق تعتبرها بمثابة اجتماع غير رسمي للجنة السوق المفتوحة، وبالرغم من أنه لا تصدر عنها أي قرارات، إلا أن أهميتها تكمن في الإشارات المستقبلية التي يلوح بها رؤساء البنوك المركزية بشأن السياسات النقدية المقبلة، وهو أمر محرك بقوة للمستثمرين في زمن التحولات الدراماتيكية لأسعار الفائدة، وانتهاء عصر صنابير المال الرخيصة، وغلبة المخاطر الجيوسياسية على العوامل الفنية. لفت انتباهي، موضوع الندوة: "التحولات الهيكلية في الاقتصاد العالمي"، والذي أراه عنواناً عاماً وغامضاً إلى حد كبير، لأن الموضوع الأكثر سخونة في ندوة تقام في أميركا برعاية الفيدرالي، يجيب أن تستجيب لرغبة العالم في معرفة توقيت عودة أسعار الفائدة للانخفاض قرب مستويات ما قبل الوباء، وهذا ما ترغب الأسواق أيضاً في معرفته، ولهذا يتوقع أن تقدم كلمة جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي التي يلقيها صباح اليوم الجمعة خطوطاً عريضة لسياسات الفيدرالي المقبلة إزاء الفائدة والتضخم، وربما يحلو للبعض أن يعقد مقارنة عن وجه الشبه بين خطاب باول هذا العام، والعام الماضي، فقد أثار خلال ندوة 2022 ضجة كبيرة عندما صرح بأن الاقتصاد يحتاج إلى بعض "الألم" لتهدئة التضخم، وأن العلاج سيكون على حساب الوظائف والنمو، مما أدى إلى زعزعة الأسواق المالية وقتها، إلا أن إيجابية البيانات الأميركية هذه المرة تجعل مهمة باول أسهل نظرياً، وربما تجعله أكثر غروراً. وهكذا، فإن السؤال الأبرز خلال اجتماع جاكسون هول، هو: إلى متى تظل أسعار الفائدة مرتفعة؟، وإذا كان الفيدرالي رفع مجمل الفائدة بشكل قياسي إلى نطاق 5.5 % في اجتماع يوليو، إلا أنه لا أحد يعلم ماذا سيحدث في اجتماع 19 سبتمبر القادم، فقد يتضمن زيادة جديدة للفائدة، وربما تثبيتاً، ولهذا تكمن أهمية حديث باول وتصريحاته، خاصة وأنه لم يتبق سوى ثلاثة اجتماعات للفيدرالي هذا العام، بالإضافة إلى أن الأسواق تريد معرفة مصير أسعار الفائدة في عام 2024، ولهذا، أتوقع أن يحظى خطاب باول الذي يبث اليوم عبر قناة الاحتياطي الفيدرالي على اليوتيوب بمشاهدة مئات الملايين، في المقابل، تتم المناقشات الأخرى خلف الأبواب المغلقة، وهذا أمر طبيعي لأنها مداولات يصعب فهمها على المشاهد العادي، حيث تكون ممتلئة بالمصطلحات الاقتصادية العميقة والإغراق الأكاديمي. في المجمل، تتوقع الأسواق الإبقاء على وتيرة رفع الفائدة لفترة أطول، وربما يكون أول توقيت للخفض في مايو 2024، في الوقت الذي يعلق فيه المستثمرون آمالاً كبيرة على سيناريو هادئ للاقتصاد الأميركي، ولا شك أن أي تصريحات تصدر عن باول اليوم فيها تلميح إلى مزيد من رفع الفائدة ستؤدي حتماً إلى تراجع سوق الأسهم، والتصريحات المثالية التي يتمناها المتداولون هو أن يشدد باول بالاعتماد أولاً على البيانات في تحديد مصير الفائدة، فهذه وحدها كفيلة بإبقاء الباب موارباً، وتتفادى أي هزات سوقية، ولعلنا نتذكر كيف فعلت تصريحات باول المتشددة بالسوق عقب ندوة العام الماضي، ومع هذا، فإن تحليل خطاباته ومواقفه، تؤكد أنه سيتقمص دور التشدد مجدداً، لأن أي إشارة إلى انتهاء دورة التشديد النقدي ستؤدي إلى رد فعل صعودي للأصول عالية المخاطر.